أخبار - 2016.06.23

الجيــــش‭ ‬عقيـــدة‭ ‬ورجـــال

الجيــــش‭ ‬عقيـــدة‭ ‬ورجـــال

في كل سنة من يوم 24 جوان تحتفل تونس بعيد الجيش ويتم تنظيم أنشطة متعددة تبرز الأعمال المختلفة للمؤسسة العسكرية. في البداية  كان العيد يختصر على استعراض عسكري في شارع بالعاصمة أمام رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة ويتم دعوة السفراء الأجانب لحضور المهرجان. ويقبل عدد كبير من المواطنين على هذا النشاط الذي يرون فيه فرصة نادرة للتعرف على المؤسسة العسكرية التي تلازم قشلاتها ولا تخرج منها إلا للتدرب في الفضاءات المفتوحة. ثم تطورت أنشطة المهرجان منذ منتصف التسعينات وبدأت المؤسسة العسكرية تقترب من المواطنين وتعرض نماذج من أعمالها داخل المدن التونسية وتنفذ الماراطون الحدودي وهو عدو تناوب يقوم به العسكريون على كامل الحدود البرية والبحرية للتراب لبعث رسالة نبيلة مفادها أن مهمة القوات المسلحة هي حماية المواطن والذود عن كل شبر من التراب. وجاءت الثورة وانحصر إحياء الذكرى في مهرجان يتيم في القصر لا يحضره المواطن ولا يسمع ولا يرى عن أعمال الجيش إلا عبر ومضات سريعة ليلة العيد أو الليلة التي تليها. ولعل أفضل هدية نجود بها لجيشنا الأبي في مثل هذا الظرف تقديم دعوة لمن يغار على هذه المؤسسة العتيدة للتفكير مليا في مستقبلها والمشاركة في تطويرها والارتقاء بها الى الأفضل لتصبح قادرة على أداء مهمتها على أحسن وجه.

تطوير القوات المسلحة يرتكز أساسا على فكـــرة إحيـــاء التقاليد العسكرية والإيمان بضرورة بنــاء جـيـــش قـوي قـــادر على حماية الوطـــن، تنبنـي على إرادة سيــاسية مسنــودة بدعم شعبي واسع النطاق للمؤسسة العسكرية. وعندما تتوفر الإرادة فإن طريق الإصلاح سينبسط أمام كل الصعوبات ونبني جيــشا قادرا على القيام بدوره بكل نجاعة وتتيســـر كل الخطــوات الرامية إلى تنظيمــه وتجهيزه وتدريبه على أسس علمية وعصرية.

التقاليد العسكرية روح القوات المسلحة

تشهد تونس يوم 24 جوان 2016 مرور ستين سنة على انبعاث قواتنا المسلحة. وحريّ بنا أن نعتمد لفظ انبعاث دون كلمات أخرى كنشأة أو تأسيس وذلك لما تحمله صفة البعث من دلالات تاريخية تجلب الاحترام لهذه المؤسسة النبيلة وتثير الاعتزاز بها فتملي علينا واجب العناية والارتقاء بها لتكون الدرع الواقي للوطن والحصن الحامي له من أطماع الأعداء والحاسدين والطامعين. وانبعاث بمعنى  إحياء الجيش التونسي الأصيل، بعدما قبر طيلة أكثر من خمسة قرون، له أكثر من معنى وأوّله بناء  تقاليد عسكرية  تعتمد على تدريس التاريخ العسكري في المدارس العسكرية والمدنية لتنمية الحس الوطني والقيم المعنوية كالاعتزار بالانتماء إلى الوطن والإخلاص له. ولا يسمح لنا بتجاهل إنجازات الجندي التونسي وبطولاته التي أبهرت العالم والتي لا نجد لها أثرا واسعا في تونس بينما تملأ رفوف مكتبات البلدان الغربية. ولا توجد في بلادنا آثار لبطولات حنبعل إلا النزير مما كتبه مؤرخو روما عن معركة زاما. ولا نعرف عن حنبعل إلا هزيمته فيها بينما تدرس في الكليات العسكرية العليا بأمريكا استراتيجية الاقتراب المباشر لحنبعل وتكتيك اللف والكمين في معارك كان وبحيرة ترازيمان. وماذا نعرف عن ملحمة الجيش التونسي الذي  فتح أسبانيا بقيادة طارق بن زياد وفتح صقلية بقيادة أسد بن الفرات وفتح مصر بقيادة جوهر الصقلي الذي بنى القاهرة وشيد جامع الأزهر وماذا نعرف عن جيش الدولة الحفصية الذي فرض سيطرته في حوض المتوسط طيلة أكثر من ثلاثة قرون ورفع راية تونس في كل أنحاء البحر المتوسط؟ ودراسة بطولات الجيش التونسي وتقاليد قتاله من شأنها أن تبعث مشاعر الفخر به لدى المواطن ورجل السياسية وممثل الشعب والمجتمع المدني  ليؤمنوا بضرورة دعمه والنهوض به.

الملك نظام يعضده الجند والجند أعوان يكفلهم المال

الملك أو الحكم نظام يعضده الجند يحميه من كل التهديدات ودوام الدولة أو زوالها مرتبط بقوة من يحميها وبالتالي فإن ضرورة امتلاك جيش قوي من شأنه أن يضمن العيش الآمن داخل التراب الوطني. وقد أثبتت الثورة والفترة التي تلتها أن دور القوات المسلحة كان حاسما في دوام الدولة.

فبعد مرور خمس سنوات على اندلاع ثورة  جانفي 2011 التي لعبت فيها القوات المسلحة دورا عظيما إذ أثبتت ولاءها للوطن ولقيم الجمهورية والتزامها  بمهمتها لحماية الشعب والمؤسسات الحكومية نجدها تتصدى بكل شجاعة للضربات الموجعة التي ترسلها أيادي الإرهاب من حين لآخر في محاولات عديدة  لضرب معنويات جيشها.

وأمام بسالة جندنا باءت كل المحاولات  بالفشل ولم تحط من عزيمة أبنائها وإنما زادت في إصرارها وحزمها واستبسالها في الدفاع عن الوطن والإخلاص له. ورغم كل ما يحيط بالمؤسسة العسكرية من صعوبات في مجالات عديدة  كظروف العيش أو العمل أو الحياة الاجتماعية للعائلات العسكرية لم نسمع يوما تذمرا من القيادات أو من الأعوان بل نجدهم  يتذامرون على محاربة أعداء الوطن ويحضون بعضهم البعض على مزيد الاستبسال في القتال ولا يتلاومون إلا عندما يشعرون بنقص في الأداء الميداني أمام العدو. لا وقت لديهم للاحتجاج والطلبات التي تخص مصالح المؤسسة ومصالح أفرادها وليس لهذا الصمت سبـــب ســوى أنه من شيم المؤسسة الكريمة التي تثق في السلطة السياسية وفي المجتمع المدني للدفاع عن مصالح المؤسسة ومصالح أفرادها. ألم يحن الوقت للسياسيين والمجتمع المدني حتى يفيقوا من غيهم ويسعوا إلى النهوض بالمؤسسة العسكرية وتطويرها؟

أعلى الممالك ما يبنى على الأسل

والأسل هو الحديد والرماح ويعني القوة ويقصد بها الجيش وهي من مقومات الدولة التي تتشكل من العناصر الثلاثة وهي الأرض والشعب والجيش الذي يحميهما ودونه لا يمكن أن نبني الدولة. والحماية حاجة إنسانية أساسية تؤمنها القوة الكافية والناجعة إذا توفرت سلمت الدولة وإذا غابت أو وهن الجيش هلكت الدولة. والأمثلة عديدة تثبت صحة هذا القول ولا حاجة في ذكرها كلها بل الاكتفاء بما جرى لبلادنا عبر التاريخ المتعارف عليه. ونذكر سقوط قرطاج العظيمة وحرقها بعدما هزم جيشها ولم يعد يذكر التاريخ سوى أسماء الكرام من أبطالها العسكريين الذين استبسلوا في قتالهم ولفّ النسيان سياسي قرطاج عندما خذلوا جيشهم.

و يجب أللاّ ننسى زوال الدولة التونسية العربية الإسلامية سنة 1574 عندما زال العنصر العربي نهائيا من الجيش التونسي وتم الاستنجـــاد بالباب العالي وجاء سنان باشا فاتحا فأقر الحكـــم العثماني وحكم الجيش التركي في بلادنا. وتوالت الهزات الى أن سقطت تونس في أيدي المستعمر الفرنسي لقمة سهلة لأن القوة الوطنية التي تحميها غير متوفـــرة. ولا يفــوتنا ذكر ما يجري في البلاد العربية هــذه الأيام لنستخلص العبرة مرة أخــــرى من أحداث الربيع العربي فنــــرى أن ليبـــيا انهـــارت ومــــازالت تدفع ثمن انهيار جيشها الوطني وتدفع العراق ثمن انهيار جيشها المهزوم سنة 2003 وستبقى سوريا على قيد الحياة ما دام جيشها مستبسلا. ولكن تــــونس ستظلّ قائمة بجيشها المتواضع الإمكانيات  وكذلك مصر ستبقى بقوة جيشـــها. وللســائل أن يسأل كيف؟ والجواب ببساطة وإيجاز كبير يكمن في كلمتين: العقيدة والرجال.

وقد لا ينفع الخيل الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرام كرام

هناك إجابة أزلية جاهزة يتذرع بها كل مسؤول مهما علا شأنه لتبرير ضعف الأداء في العمل أو لتصور عملية إصلاح المنظومة التي ينتمي إليها وهي قلة الوسائل أو «الوسيلة تدبر الحيلة». يركز على طلب عدد كبير من الوسائل البشرية وقدر وافر من الاعتمادات المالية ويختار الوسائل المادية المتطورة (آخر صيحة في التكنولوجيا) ولا يعتمد في تفكيره على قيمة العنصر البشري الذي يطوّع الآلة، ولا يجهد نفسه في ترشيد  الوسائل المالية ليتم صرفها في الضروريات ويظن أن الآلة المتطورة تصنع العامل الناجح وتؤدي كل الوظائف بسهولة ونجاعة دون إعانة من الفرد. والتاريخ يذكر أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بفضل إيمان الرجال وإخلاصهم للوطن وبالتدريب والانضباط أما الوسائل المادية فهي مؤثرة لا محالة ولكنها تأتي في المقام الثاني. ومن بين الأمثلة التي لا نريد سماعها ونحرم ذكرها هي دولة إسرائيل التي بنيت على الأسل  واستطاعت أن تصمد أمام كل جيرانها بفضل إيمان مواطنيها بقيمة بقاء دولتهم.

وتلك العقيدة القوية هي قوام دوامها الى جانب قيمة العنصر البشري والمادي. وتطور الآلة الحربية  وحدها لا ينفع وما جرى في غزو الكويت وتهديد السعودية سنة 1991 خير شاهد على ذلك. فالجيش الكويتي كان مجهزا بأحدث الأسلحة ولم يصمد ساعة واحدة أمام الهجوم العراقي. واستنجدت السعودية بأمريكا لتدافع عنها والحال أنها تملك أكبر ترسانة حربية في البلاد العربية. وفي سنة 2011 انهارت الدولة الليبية التي تملك أكبر وأحدث ترسانة حربية في العالم الثالث ولم يصمد جيشها إلا أسابيع معدودة. والأسباب الميدانية لهذه الهزائم عديدة ولكن  الدروس الاستراتيجية واحدة: غياب العقيدة وضعف الرجال الكرام.

ومن لم يرم صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

الصعود إلى القمة ليس أمرا مستحيلا في بلادنا فقد أثبت الشعب التونسي في عديد المرات أنه قادر على تخطي كل الصعاب. فإن آمن بوظيفة المؤسسة العسكرية ورأى حتمية النهوض بها والصعود بها الى القمة فالطريق مؤشر وواضح وما ينقص إلا الإرادة السياسية ثم المضي قدما في انجاز خطوات إصلاحية وأهمها:

إنجاز  السياسة الأمنية: يعتبر التفكير في تطوير المؤسسة العسكرية أمرا مشروعا وفي غاية الأهمية لأن تونس تواجه الآن أخطارا عديدة تهدد أمنها القومي. وليس الإرهاب هو الخطر الوحيد الذي يهددها وإنما يتعدى ذلك ليشمل خطر العدوان الخارجي. وربما لا يريد الخبراء التطرق إلى هذه الفرضية ولكن المحيط العربي شهد منذ استقلال تونس ما يزيد عن 15 حـــربا منهــــا 5 حــــروب تقليدية عربية–عربية (مصر ـ اليمن، و الجــزائر ـ المغرب ومصر ـ ليبيا والعراق ـ الكويت والسعودية ـ اليمن). ثلاثة حروب مصرية اسرائيلية وأكثر من ستّة نزاعات مسلحة محدودة بين اسرائيل وجيرانها (فلسطين ولبنان والأردن وسورياوأربع حروب أهلية (اليمن ولبنان والجزائر وليبيا) وعدوانان على العراق والحرب العراقية الإيرانيةوهو معدل حرب كل ثلاث سنوات وإذا احتسبنا المدة الطويلة التي تستغرقها الحروب الأهلية فإن المعدل يكاد يصل إلى نزاع دائم. وما عسى أن تكون العبرة من هذا الوضع سوى أن نستنتج أن الخطر محدق بتونس ويتطلب منها التهيؤ لمجابهته وإعداد العدة لردع كل من تسول له نفسه التفكير في الاعتداء عليها.

والردع يتطلب جيشا قويا قادرا على حماية التراب والذود عن استقلال البلاد وحماية المؤسسات والمواطنين. وأفضل وسيلة لبناء هذا الجيش هو الشروع في إصلاحه حتى يواكب التطور الحاصل في أنواع التهديدات الجديدة وفي أساليب العمل وفي التجهيزات. ويمكن اختزال كل هذه الأعمال في إنجاز وثيقة توجيهية تبين السياسة الأمنية للدولة وتوضح المخطط المالي لتجهيز الجيش وبناء وحداته.

إنجاز عقيدة عسكرية: في كلمة هي كيف نقاتل أو كيف نتصدى للتهديدات. والعقيدة العسكرية هي مجمل الوثائق التي توضح كل صغيرة وكبيرة في مجالات العيش والعمل والتدريب والعمليات فتوحدها وتحدد طريقة تنفيذها.

تكوين القادة: إذا كـــان العنصـــر البشـــري أهم مقـــومات القـــوات المسلحـــة فالقـــائد يتحمل مسؤولية النجاح  أو الإخفاق الميـــداني. ومـــن الضــــروري أن تتمّ العنـــاية بتكوينهم كقادة عسكريين ميدانيين واختيار أفضلهم لإدارة الوحدات الميدانية.

تكوين النماذج: ويقصد بها السعي إلى تكوين وحدات عسكرية نموذجية في أهم الاختصاصات التي ليست ضرورية في الوقت الحاضر وعلى المدى المتوسط لمواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي والتي قد تكون صالحة بعد عشر سنين على سبيل المثال وتشمل بصفة عامة القدرات المادية المتطورة. ويتم تحديدها من طرف  المكتب  العسكري للدراسات الاستراتيجية.

التصنيع العسكري: أصبح خيارا استراتيجيا لتوفير الحاجيات الضرورية للقوات المسلحة ويضمن الاحتفاظ بهامش مناسب لاستقلالية القرار السياسي عند الاقتضاء. (انظر المقال الصادر في ليدرز العربية عدد 5 من 15 ماي إلى 15 جوان 2016)

التدريب المشترك: تحتاج الوحدات العسكرية التونسية إلى الاحتكاك بالجيوش الصديقة المتطورة لكسب الخبرة الميدانية والفنية. ولا يمكن لها أن ترفع مستوى تدريبها العملياتي إلا عندما تشترك في تدريبات ميدانية مع نظيراتها.

لتونس جيش تتوفر لديه المقومات الأساسية ليصبح قديرا وينسج على تقاليد وآثار الجيش التونسي الأصيل الذي رفع راية الوطن عاليا وكتب صفحات تاريخه بأحرف من ذهب. ومن أهم هذه المقومات القيم المعنوية التي يحملها قادته وجنوده من إخلاص للوطن ونكران الذات والشجاعة والشرف. ومن الواجب دعم مؤسستنا العسكرية وتعزيزها ماديّا لتحمي حمى الوطن العزيز. عاشت المؤسسة العسكرية درعا لتونس أبد الدهر.

محمد النفطي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.