أخبار - 2016.06.20

المسألة التّربويّة في تونس: بين ديناميّة المعرفة وسكونيّة المدرسة

المسألة التّربويّة في تونس: بين ديناميّة المعرفة وسكونيّة المدرسة

تعيش المدرسة التّونسيّة في مثل هذه الفترة من كلّ سنة شهرا مميّزا هو شهر الحصاد المدرسيّ حيث تُجْرَى مختلف الامتحانات الوطنيّة ويُعْلَن عن نتائجها، وهي مناسبة يُستَأنف فيها النّقاش حول واقع المنظومة التّربويّة في بلادنا ويعود الجدل بشأن أنجع السّبل إلى إخراج المدرسة من وهنها ومعالجة مشكلاتها. ولم تخل المقاربات المختلفة في هذا المجال من تردّد وارتباك تترجم عنهما محاولات الإصلاح المتتالية التّي طالت هذه المنظومة والمساعي المتكرّرة من أجل تشخيص مواطن الخلل والنّقص فيها واستمرار البحث عن الطّرق الكفيلة بتعديل مساراتها وتصويب اتّجاهاتها.

 

غير أنّ النّاظر في هذه المحاولات يلاحـــظ أنّها ظلّــــت على الدّوام متّصلة بفروع الأزمة دون أصولها، تلامـــس سطحـها ولا تنفذ إلى عمقها، فهي تنعقد في الغالب الأعمّ على البرامج والتّكوين والتّقييم والزّمن المدرسيّ وما شابـــه ذلك مــــن المسائل التّقنيّة الصّرفة ولا تهتمّ بإعادة النّظر في التّصــــــوّرات المتحكّمـــة في رؤيتــــنا إلى المدرسة ووظائفها. وعلى هذا النّحو لم تستند برامج الإصلاح إلى قــراءة معمّقـة في الأسبــاب البعيدة لمشكلات التّربية عندنا، وهي أسباب تتعلّق – في تقديرنا – بما طرأ على أنظمة المعرفة مـن تحــوّلات لم تواكبها المدرسة فانعكـــس ذلك على منــزلتها ووظائفها وعلاقاتها بمحيطها الموضوعيّ. 

فما هي تجلّيـات هذه الأزمة؟ وكيف نفسّر أسبابها؟ وهل من سبيل إلى إيجاد الحلول الملائمة لتجاوزها؟

تكاد تلتقي جلّ المقاربات التّي اهتمّت بتقييم المنظومة التّربويّة في تونس حول تشخيص موحّد يضبط مظاهر القصور والوهن في تــــراجع مستـــوى التّكوين وضعـــف مكتسـبات خريجّي هذه المنظومة، وتراجع درجات الحرص على الانضباط والتّأطير داخل المؤسّسة (تفاقم ظواهر الغشّ والعنف وتعاطي المخدّرات والغياب والتّهاون في التّحصيل)، وتدنّي الكفاءة الصّناعيّة والبيداغوجيّة لجانب هامّ من المدرّسين، وضعف الصّلة بين المدرسة وسوق الشّغل، وبالتّالي بين التّكوين والإدماج. وإذا رمنا الفحص عن العوامل التّي أدّت إلى هذه النّتيجة أمكن أن نردّها إلى اختلال التّوازن بين نتاج المدرسة (العرض) وحاجات المجتمع (الطّلب)، فقد مرّ هذا النّتاج من النَّفَاقِ إلى البَوَار، وتحوّل الطّلب على مخرجات المدرسة إلى زُهد فيها، وقد حـــدث هذا الاختلال على نحو متدرّج توضّحه المراحل الثّلاث التّي مـــرّت بها المــدرسة التّونسيّة بعد الاستقلال.

مرحلة «سيادة المدرسة»

ظلّت المدرسة على امتداد جيل كامل محطّ أنظار بناة الدّولة الحديثة ومركز اهتمامهم ومستودع آمال المجتمع وطموحاته وتطلّعاته، وذلك لسببين رئيسيّين على الأقل:

  • السّبب الأوّل هيكليّ بشريّ، ذلك أنّ هذه المرحلة اتّسمت بالحاجة الماسّة إلى المدرسة والطّلب الملحّ على نتاجها: حاجــــة البــــلاد إلى الكوادر والإطارات الصّغرى والوسطى والعليـــا مـــن أجل الإيفاء بمتطلّبات الإدارة المُتَوْنَسة وأجهزة الدّولة ومؤسّساتها ومصالحها في مختلف القطاعات والميادين.
  • السّبب الثّاني فكريّ سياسيّ، فالملاحَظُ أنَّ الحاجــة إلى المدرسة في تلك المرحلة كانت حـــاجة إلى فضـــاء حــاضن لقيم الحداثة والتّنوير والانفتاح التّي ظهرت بوادرها في سنّ مجلّة الأحوال الشّخصيّة وإلغاء التّعليم الزّيتوني والقضاء الشّرعي وحلّ الأحباس، ومن ثمّ كان الرّهان على المدرسة رهانا مصيريّا وحاسما على أكثر من صعيد، فقد أُنيط بها أن تكون السّند القويّ لعمليّة البناء الحضاريّ الشّامل (بناء الدّولة وبناء المجتمع وبناء الفكر).
 
وإذا عدنا إلى تلك الحقبة لاحظــنا أنّ تحرير المرأة مثلا لم تحقّقه أحكام المجلّة بقــدر مــا حقّقتــه المـدرسة التّي مكّنت الفتاة من التّعلّم والاختلاط والارتقاء في مدارج المعرفة وتقلّد الوظائف واقتحام كلّ مجالات العمل والنّشــاط، كمـــا أنّ تحديث المجتمع لم تحقّقــه القـــوانين والتّشريعات بقدر ما حقّقتـــه المــدرسة التّي أنارت العقول وفتحـــت البصــائر وصقلت الأذهان وأنضجت ملكة التّفكير والتّدبّر وأكسبـت المتعلّميــــن آليّات التّحليل والقراءة والفهم. ولهذه الأسباب وضعت الدّولة النّاشئة كلّ ثقلها من أجل إنجاح الرّهان على المدرســـة، وتجلّى ذلك في الحــــرص على جودة البرامج ودسامتها، والاهتمـــام بمتانة تكوين المدرّسين، واعتماد نظام تأديبي صارم شديد، وتكثيف العمل الاجتماعيّ المدرسيّ وتعزيز الإحاطة بالتّلاميذ.
 
وترتّب عن ذلك كلّه أن اقترنت المدرسة بالقيم الإيجابيّة الماديّة منها والمعنويّة، فكانت رمز الارتقاء الاجتماعي والرّفاه المادّي، ورمز المعرفة والوجاهة والقيمة الاعتباريّة أيضا. وفي الجملة كانت المدرسة أيقونة المشروع الحضاريّ والمجتمعيّ للدّولة، ففي المدرسة تشكّلت ملامح تونس الحديثة، وبواسطة المدرسة نجح السّاسة في تغيير المجتمع وتغيير الفكر وتغيير الذّهنيّات.

مرحلة الإشباع والاستقرار

ما كاد الجيل المدرسيّ الأوّل ينتهي حتّى كانت المدرسة قد أرست مواضعات اجتماعيّة ناشئة وكرّست عادات وتقاليد مخصوصة وفرضت نمط عيش جديد وجذّرت سلوكات وتمثّلات أساسها علاقة المجتمع بالمدرسة، وهكذا صرنا نتحدّث عن عودة مدرسيّة تُتخَّذ لها استعدادات خاصّة، وامتحانات مدرسيّة تُجنَّد الطّاقات والامكانات لإنجاحها، وعطل مدرسيّة تبرمَج بعناية وتكيّف حياة التّلاميذ والعائلة، وظهرت تقاليد في التّفوّق المدرسيّ وتبارت مؤسّسات وجهات في النّبوغ والنّجابة، وبدأ في المقابل الحديث عن معالجة الفشل المدرسيّ والانقطاع المدرسيّ، وصارت الجامعات تدرّس علم الاجتماع المدرسيّ وعلم النّفس المدرسيّ ... بل إنّ المدرسة باتت نعتا لكثير من الأنشطة التّي كانت تبدو منفصلة عنها فانتشرت عبارات مثل النّقل المدرسيّ والصّحّة المدرسيّة والرياضة المدرسيّة والمسرح المدرسيّ وغيرها. ويدلّ هذا الحضور الواسع على مدى انغراس المدرسة في الوعي الجماعيّ الذّي اعتبرها المشتل pépinière الذّي تتزوّد منه الدّولة والمجتمع والمعبر الضّروريّ إلى الحياة الكريمة.
 
غير أنّ هذا الرّسوخ والاستقرار تحوّلا شيئا فشيئا إلى ضرب من الجمود والثّبات بعدما حقّقت الدّولة ومؤسّساتها الاكتفاء من نتـــاج المدرسة وحــــدثت حـــالة من الإشبــــاع والــــوفرة. وهكذا لم يقع التّعاطي مـــع مشكـــلات المدرسة بالحـــسّ الاستباقي المطلــــوب وبالرؤية الاستشرافيّة اللّازمة فاتّجهت المدرسة إلى ما يشبه السّكونيّة statisme والتكلّس، مما أفرز ضربين من الاختلال: اختلال بين تحوّلات المجتمع وتبدّلاته المتسارعة وبين ركود المدرسة وثباتها على حالها، واختلال بين ديناميكيّة المعرفة وحركيّتها المتزايدة وبين اجترار المدرسة للأنظمة المعرفيّة القديمة.

مـرحلة التّراجع والانحدار

عندما استوفت المدرسة أدوارها السّابقة ولبّت الحاجات التّي اقتضتها تلك المرحلة ظهرت في محيطها الموضوعيّ حاجات جديدة ومقتضيات مستحدثة لم تكن المدرسة – بحكم انتهائها إلى الثّبات والسّكون – مهيّأة للإيفاء بها، فالمدرسة التّي تمكّنت في ما مضى من كسب معركة الكمّ باتت أمام معركة جديدة هي معركة الجودة العالية والمعرفة الشّاملة والجوهريّة وتطوير الكفاءة الطّبيعيّة للفكر وتنميّة الفهم وإصلاح مناهج المعرفة، ولكنّها لم تقو على أداء هذه الوظيفة الجديدة لأنّها لم تجدّد رهاناتها ولم تجدّد أهدافها الكبرى ووسائل عملها.
لقد شهد العالم انفجارا معرفيّا تشعّبت معه فروع المعرفة وتداخلت أبوابها، كما شهد انفجارا اتّصاليّا ومعلوماتيّا تطوّرت بمقتضاه وسائط المعرفة ومحاملها وقنواتها، واكتشفت العلوم العرفانيّة les sciences cognitives مناطق مجهولة في الدّماغ البشريّ وطاقات هائلة للتّفكير والإنجاز وأنماطا جديدة للذّكاء، ومن ثَمّ طُرحَت على المدرسة مطالب جديدة ومهامّ مغايرة هي إنتاج أدمغة بمواصفات عالية الجودة وإنتاج الكفاءة المواكبة للتطوّرات الجديدة. ولمّا كانت المدرسة على درجة من الترهّل والتّقادم بما جعلها جهازا تقليديّا مثقلا بالرّواسم القديمة كان من الطّبيعي أن تراقب هذه التّحوّلات بعين الكليل العاجز، وبهذا نفهم تراجع الطّلب على نتاج المدرسة وزهد المحيط الموضوعيّ في مخرجاتها.
 
لقد تغيّرت الحاجيّات ولم تتغيّر المدرسة التّي عُهدَت إليها تلبية تلك الحاجيّات، ففي الوقت الذّي فرض الواقع الجديد قيم الجودة والكفاءة العالية والعمل الجادّ والقدرة على المنافسة الشّديدة سقطت المدرسة في التّساهل في التّكوين والتّساهل في التّقييم وتضخيم الأعداد وتشجيع المجهود الأدنى والقبول بالتّهاون والخمــــول، وحــــين كـــــان فلاسفـــة التّربية وعلماؤها ينظّرون «لبيداغوجيا الذّكاء» كنّا نروّج – من حيث لا نعلم – للرّداءة تحت مسمَّى «بيداغوجيا النّجاح».
 
ومن هنا حدث التحوّل الحاسم في مسار المدرسة وصرنا إزاء مفارقات غريبة، إذ انتقلنا من «المدرسة الحافز» إلى «المدرسة العبء»، وبعد أن كان التّعليم مصعدا اجتماعيّا أصبح من المنظور الشّعبيّ قرينا للبطالة أو محدوديّة الدّخل، وبعد أن اعتبرت سنوات طلـــب العلـــم سبيلا إلى كسب المستقبــل صارت تُرى إهدارا للوقت، وبعـــد أن كانـــت المعـرفة قيمة اعتباريّة ومبعث فخر واعتزاز أضحت مسلكا غير مأمون العثار.

كيف السّبيل إلى الإصلاح الحقّ؟ 

لا شكّ في أنّ منظومة التّعليم تنتج اليوم مخرجات متواضعة القيمة، والسّبب – كما أسلفنا - يعود إلى أنّها كانت ذاهلة عن التّحوّلات المعرفيّة والمنهجيّة التّي شهدها مجال التّربية في العشريّات الأخيرة، وليس أمامها اليوم سوى أن تمضي بكلّ تصميم نحو تطوير القدرات والكفاءات وأشكال الذّكاء التّي تزوّد بها المتعلّمــين، وأن تتفـــاعل بســـرعة فائقة مع تجدّد المعارف وتشعّب فروعها وأبوابـــها، وأن تواكــب الانفجــــار الـــذّي تشهــــــده تكنـــولوجيّات الاتـــــصال والمعلـــومات مواكبة حقيقيّة، وأن تمنح مسالك التّعليم التّطبيقيّ والصّناعيّ ذي الجودة العالية الحجم الذّي تستحقّه في شبكة التّكوين، وأن تحكم ربط مسارات التّكوين بالمهن المستحدثة ومستجدّات سوق الشّغل وميادين النّشاط الجديدة.
 
إنّ المدرسـة مرتبطة – في أصل الأشيــاء - بحركيّة المعرفة التّي تقــوم على نشرها وبحركيّة المجتمع الذّي تتنزّل فيه، وإذا كانت أزمتها متأتّية من تقطّع الأسباب بينها وبين هذين الصّنوين فإنّ إصلاحها يكمن في توثيق صلاتها بهما.
 حبيب الدريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.