أخبار - 2016.04.23

البــارون‭ ‬والموسيقى‭ ‬العربيّة‭ : ‬رحــلـة‭ ‬المريــد‭ ‬إلى‭ ‬منـابع‭ ‬الصّفــاء

البــارون‭ ‬والموسيقى‭ ‬العربيّة‭ : ‬رحــلـة‭ ‬المريــد‭ ‬إلى‭ ‬منـابع‭ ‬الصّفــاء

أشرنا‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬سابق‭ ‬عن‭ ‬البارون‭ ‬رودولف‭ ‬ديرلنجي ‭)‬أنظر‭‬‮«‬ليدرز‭ ‬العربيّة‮»‬‭ ‬عدد‭ ‬(3‬إلى‭ ‬ملامح‭ ‬من‭ ‬شخصيّته‭ ‬وأعماله‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الرّسم‭ ‬والموسيقى‭ ‬والتّراث‭ ‬المعماري‭. ‬وسنقدّم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬عرضامجملا‭ ‬عن‭ ‬إنجازاته‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الموسيقى‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬امتدّت‭ ‬من‭ ‬سنة1914‭  ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬العام1932‭ ‬وانتهت‭ ‬بتأليفه‭ ‬كتابه‭ ‬الشّهير‭ ‬‮«‬الموسيقى‭ ‬العربيّة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أضحى‭ ‬مرجعا‭ ‬أساسيّا‭ ‬لدارسي‭ ‬التّقاليد‭ ‬الموسيقيّة‭ ‬العربيّة‭ ‬الإسلاميّة‭.‬وقد‭ ‬أفضت‭ ‬جهود‭ ‬البارون‭ ‬العلميّة‭ ‬والتّنظيميّة‭ ‬إلى‭ ‬انعقاد‭ ‬مؤتمر‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربيّة‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬سنة‭ ‬1932كما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬النّهوض‭ ‬بموسيقى‭ ‬‮«‬المالوف‮»‬‭ ‬وتطوير‭ ‬التّعليم‭ ‬الموسيقيّ‭ ‬بتونس‭.‬

البارون ديرلانجي والشّيخ أحمد الوافي

لم يكن البارون في سنوات إقامته الأولى بسيدي أبي سعيد، يختلف في حياته واهتماماته عن أيّ رسام أجنبيّ يكتفي من الواقع الشّرقيّ بنظرة خارجيّة تنقل المناظر الطّبيعيّة والمشاهد الشّعبيّة، إلى أن تعرّف سنة 1914 على الشّيخ أحمد الوافي الذي فتح أمامه آفاقا غير متوقّعة في مسيرته لفهم روح الشّرق الإسلاميّ والإلمام بجوانب من تراثه الأدبي، وخاصّة لمعرفة موسيقاه العريقة في تميّزها ونقائها الأصيل.

كان الشّيخ أحمد الوافي المولود في تونس سنة 1850 من ذوي الإحاطة بالآداب القديمة إضافة إلى رسوخ قدم في التّقاليد الموسيقيّة الصوفيّة، مع ممارسة للعزف والتّلحين واطّلاع على جوانب من موسيقى الغرب، وقد كان همزة وصل بين عصرين وجسرا بين تقاليد محليّة وأخرى واردة من الشّرق العربي وأوروبا، ممّا أكسبه الكفاءة لتطوير الموسيقى.وقد شاءت الظّروف أن يكون أحمد الوافي بمثابة الشّيخ للمريد رودولف، فكان دليله في مغامرة فكريّة وروحيّة كشف له خلالها  كنوزا أدبيّة وصوفيّة قديمة منها كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الإصفهاني (284 ـــ 356 ه). وقد تركت وفاة أحمد الوافي في العام 1921 فراغا في حياة البارون حيث كان بالغ الحرص على ملازمته والانتفاع بعلمه. ولا شكّ أنّ ما اكتسبه من المعارف في صحبته كان حافزا له لمواصلة البحث وتأليف كتابه «الموسيقى العربيّة» الذي استغرق إعداده زهاء العقد من الزّمن واستعان في تصنيف موادّه بثلّة من العلماء التّونسيين والأجانب، منهم محمد المنّوبي السّنوسي والبارون الفرنسي كارا دي فو والموسيقيّ السّوري الشّيخ على الدّرويش الحلبي. وقد صدر الكتاب بباريس عن دار غوتنيرGeuthner وظهر الجزء الأوّل منه في حياة البارون سنة 1930 ونشرت الأجزاء الخمسة الباقية تباعا بعد وفاته، وكان صدور آخر الأجزاء سنة 1959.

منهج البارون في كتابه "الموسيقى العربيّة"

كان منهج البـــارون في دراسة التّقاليد المــوسيقيّة العربيّة مختلفا عن مناهج غيره من المستشرقين الذين قلّما جاوزوا المقاربـــة «الإثنولــوجيّة» والتّركيز على الخصائص التّقنيّة للموسيقى دون كبير اهتمام بالمحيــــط الحضــاريّ والسّياق التّاريخيّ. ومع التزام البارون بحياديّة المنهــــج العلميّ في البحث والاستنتاج، فقد تنـــــاول الموضوع بـــروح نضــــاليّة، إضافة إلى الخبرة العمليّة حيـــــث أُتيح له ممـــارسة الموسيقى عـــزفا وتأليفا. وقـــد عُني ديرلانجي في كتابـــه بنشــأة الموسيقى العربيّة وتطوّرها عبر العصور والبحث عن منابعها الأصليّة، وضمّنه ترجمة لأهمّ المؤلّفات التّي صُنّفت فيها قديما مثل أجزاء من كتاب «الموسيقى الكبير» للفـــارابي (260 ـــ 339 هـ) والفصل الخاصّ بالموسيقى ضمن كتاب «الشّفـــاء» لابن سينـــا (370 ـــ 427 هـ) و«الرّســـالة الشّرفيّة» و«كتاب الأدوار» لصفيّ الدّين الأرموي (613 ـــ 693 ه) و«الرّسالةالفتحيّة» لمحي الدّين محمد اللاّذقي (القرن التاسع الهجري). وقدّ خلص البارون في نهاية الكتاب إلى نظريّة شاملة للموسيقى العربيّة في العصر الحديث. والواضح أنّ سمة الموسوعيّة قد طبعت منهجه في فهم موسيقى الشّرق ونرى لها أثرا بارزا حتّى في مفهومه للعمارة إذ يُعدّ قصره «النّجمة الزهراء» إنجازا «موسوعيّا» وتأليفا فريدا بين الطّرز والأساليب المعماريّة التّقليديّة.

مؤتمر الموسيقى العربيّة، القاهرة 1932

مثّل انعقاد مؤتمر القاهرة للموسيقى العربيّة سنة 1932، تحت إشراف فؤاد الأوّل ملك مصر، حدثا دوليا ذا أهميّة كبيرة حيث جمع علماء وموسيقيين من الأقطار العربيّة والإسلامية بالإضافة إلى باحثين من أوروبا، لتدارس أوضاع الموسيقى وضبط قواعدها والنّظر في وسائل النّهوض بها. وكان للبارون ديرلانجي دور فعّال في إعداد المؤتمر بما له من العلاقات بأصحاب القرار في مصر. وممّا أنجزه في هذا المجال إقناع السّلط الفرنسيّة بالموافقة على مشاركة الوفود المغاربيّة بعد ممانعة، والتّفاوض مع الشّركات الأوروبيّة بشأن تسجيل الحفلات الموسيقية، إلى غير ذلك من المهام. وكان الملك فؤاد الأوّل قد عيّنه نائبا لرئيس هيئة التّنظيم محمد حلمي عيسى باشا الذي أشار في خطاب اختتام التّظاهرة إلى دور البارون قائلا إنّ له «فضل الإسهام بقسط كبير في الأشغال التي أدّت إلى تحقيق فكرة المؤتمر وقد تمّ العمل بالكثير من نصائحه...». وكانت شهادة واضحة بما تدين به الثّقافة العربيّة لرجل كان الأكثر وعيا بين معاصريه بقضايا الموسيقى العربيّة، وكان له، إلى ذلك، فضل إعداد مساهمة تونس في المؤتمر علميّا وفنيّا وماديّا حيث أشرف على تكوين التّخت الموسيقي المتكوّن من محمد غانم (رباب) وخميّس ترنان (عود) و(طار) و(نغرات) و(منشد) وأوكل إلى معاونه وكاتبه محمد المنّوبي السّنوسي مهمّة تقديم تقريره إلى المؤتمر الذي لم يحضره بسبب المرض.

أثر البارون في الموسيقى التّونسيّة

أمّا أثره في الموسيقى التّونسيّة فكان لا يقلّ تميّزا، بل لعلّ مقاله الذي نشره عن أوضاعها المتردّيّة في «المجلّة التّونسيّة» سنة 1917، كان المنطلق للبحــــث عن الحلول في الأصـــول القــــديمة للموسيقى من خلال ربط ماضيها بحاضرها، وهي الرّؤية الشّاملة التي بنى عليها مشروعه في النّهوض بالموسيقى العربيّة عموما. لقد جمع شتات الموسيقيين التّونسيين وعقد معهم حلقـــات الدّرس والمناظرة والتّأليف في قصره، وألزمهم باتّباع التّقاليد الصّحيحة في الممارسة الفنيّة وأوعز إلى محمّد الصّادق الرّزقي بتأليف كتابه الشّهير «الأغاني التّونسيّة». ومن مآثره حمله سلطة الحماية على تأسيس مدرسة لتعليم الموسيقى العربيّة بإشراف الشّيخ السّوري علي الدّرويش الحلبي. ومن الثّابت أنّ تلك الجهـــــود كان لها بالغ الأثر في وعي النّخبة التّونسيّة بضرورة النّهوض بالتّراث الموسيقي،ممّا أفضى إلى تأسيس المعهد الرّشيدي سنة 1932. ذلك ما أنجزه البارون رودولف ديرلانجي للموسيقى وهو بعض ممّا خدم به الثّقافة في مجالات أخرى مثل التّراث المعماري الإسلامي.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.