أخبار - 2016.04.21

التجارة‭ ‬الموازية،‭ ‬تغري‭ ‬المــواطن‭ ‬وتستنزف‭ ‬الاقتصاد‭ ‬

التجارة‭ ‬الموازية،‭ ‬تغري‭ ‬المــواطن‭ ‬وتستنزف‭ ‬الاقتصاد‭ ‬

طفى مشكل التجارة الموازية منذ سنوات على الحياة الاقتصادية في تونس، فالتجارة المهيكلة تتضرر منها والمواطن يقبل عليها ولكنّ الدولة مترددة في معالجة هذه الظاهرة.

تعاظم حجم التجارة الموازية اليوم ليصل إلى حوالي 20 مليار دينار في السنة من جملة المبادلات التجارية الاستهلاكية التي تناهز 60 مليار دينار، فما هي أسباب انتشار هذه الظاهرة؟ وماهي آثارها على الاقتصاد الوطني وكيف يمكن الحد منها تدريجيا للتوصل إلى القضاء عليها؟

مصدر السلع التي تباع في إطار التجارة الموازية  متنوع من حيث المنشأ، بعضها أدخل إلى البلاد عن طريق التهريب والبعض الآخر صُنع في تونس ولكنه يروج بطريقة مخالفة للقانون، أوأدخل إلى البلاد لغايات معينة حتى تعطى له قيمة إضافية ويعاد تصديره، ولكنه يبقى في تونس ويروج في أسواقها في مخالفة صريحة للقوانين المعمول بها في كنف صمت مريب لجهاز المراقبة. وقد ٲصبحت التجارة الموازية تشكل ملاذا للمواطن ولكنها تستنزف موارد الدولة وتقدر الخسارة الناتجة عنها بحوالي 6 مليارات دينار سنويا.

كيف أمكن تحديد هذه الخسارة الجبائية التي تستنزف صناديق الدولة؟

يرى خبراء الاقتصاد والمالية أنّ المنتوج الداخلي الخام للبلاد التونسية، بعد طرح الجباية والأداء على القيمة المضافة، يناهز 62 مليار دينار سنويا، فإذا ما طبقنا الأداء على القيمة المضافة على هذا المبلغ وهو أداء يتراوح بين الإعفاء الكامل بالنسبة إلى المواد الفلاحية و6 % بالنسبة إلى بعض المواد الغذائية الأساسية و12% بالنسبة إلى القطاع السياحي و18بالنسبة إلى غالبية القطاعات، لأمكن اعتماد معدل عام وهو 12%، مما يؤدي إلى توفير مبلغ 7,5 مليار دينار تقريبا كمجموع عام، ولكن على مستوى الواقع فإنّ المداخيل المتاتية من الأداء على القيمة المضافة لا يتعدى حاليا 5 مليارات دينار،مما يجعل النقص في الأداء على القيمة المضافة نتيجة التجارة الموازية في حدود 2,5 مليار دينار سنويا.

اما بالنسبة إلى الأداءات عند التوريد المتعلقة بالمعاليم بالديوانية أو بمعلوم الاستهلاك أو الأداء على الأرباح الناتجة عن تداول هذه البضاعة في السوق الموازية، فإنه يصعب تحديد النقص في المداخيل الجبائية المتعلقة بها، ولكن يمكن حصرها في حدود 15% من مجموع قيمة البضائع المروجة ،ممٰا يجعل قيمة النقص أكثر من 3 مليارات دينار سنويا، وهكذا يكون مجموع الخسائر التي تلحق ميزانية الدولة سنويا بين 5,5 و6 مليارات دينار تقريبا. وبما أنّ مجموع الدخل الجبائي الحالي بميزانية الدولة هو 18 مليار دينار فإنّ نسبة النقص هي 6 مليارات دينار من مجموع افتراضي قدره 24 مليار أي أنّ 25%من الدخل الجبائي يستنزفه الاقتصاد الموازي.

من أين تأتي السلع والبضائع التي تروج في مسالك التجارة الموازية؟

مصادر هذه البضائع متنوعة ويمكن حصرها في أربعة مصادر:

أولا: في إدخال كميات هامة من السلع عبر مسالك التهريب انطلاقا من المواني الكبرى للبلاد وفي طليعتها ميناء رادس، حيث تستعمل كل الحيل لإدخال البضائع باسم شركات وهمية أو شركات للتجارة الدولية أو بمغالطة في نوع البضاعة المستوردة أو كميتها حتى يقع التقليص أو التملص من دفع الأداءات المستوجبة عليها.

وإلى جانب الموانئ، فإنّ هنالك الحدود البرية مع كل من الجزائر وليبيا، وتشير إحصائيات البنك الدولي إلى أنّ حجم البضائع التي يقع إدخالها  إلى تونس عبر المسالك الحدودية يصل إلى ملياري  دينار سنويا تستاثر الحدود مع الجزائر بـ 60 % منها، بينما تستأثر الحدود مع ليبيا بـ 40 % الباقية.

لكنّ التهريب عبر الحدود البرية لا يشكل إلّا  10% من جملة السلع والبضائع التي تروج بالسوق الموازية.

ثانيا: إلى جانب هذه السلع التي تدخل إلى البلاد بطريقة غير قانونية ولا تدفع  بالتالي معاليم الأداء على القيمة المضافة أو الأداء على الاستهلاك والأداءات القمرقية بالطريقة المستوجبة قانونا، فإنّ الشركات المصدّرة والمنتصبة بالبلاد التونسية حسب قانون 1972 لها دور هام ،وإن كان أقلّ حدة في إغراق السوق التونسية بمنتوجات كان من المفروض أن تصدّر إلى  الخارج.

وهذه المؤسسات كانت معفاة من أي أداء، ولا يوجد في العالم بلدان كثيرة أقدمت على اعتماد النظام التونسي لأنّه عادة ما يقع تركيز هذه المؤسسات في مناطق حرة، كما هو الشأن في المغرب. ولكنّ قانون 1972 سمح ببعث هذه المؤسسات دون تحديد المناطق المنتصبة بها ويقضي بالاكتفاء بتعيين عون قمارق يقع خلاصه من طرف الشركة المصدرة، وبمرور الوقت يصبح هذا العون متعاطفا مع الشركة التي يتبعها أكثر من تعاطفه مع إدارته الاصلية، فيسمح من حين لآخر  بإخراج جزء من البضاعة المصنعة لترويجها خفية بالسوق التونسية.

ولم يسمح هذا القانون  في البداية لهذه الشركات بأن تروج جزءا من إنتاجها بالسوق التونسية، ثم سمح لها شيئا فشيئا بأن تبيع جزءا من إنتاجها بتونس بعد خلاص الأداءات المستوجبة وكانت هذه النسبة في البداية 10% من الإنتاج ثم تطورت  لتصبح 20% ثم 30%.

ثالثا: أمّا السبب الثالث  فهو يعزى لعمليات التوريد التي تقوم بها شركات التجارة الدولية التي سمح لها القانون بأن تورد كل البضائع تقريبا وذلك لإعطائها قيمة إضافية وإعادة تصديرها. ولكنها تتولى إدخال هذه البضائع، ولا تضفي عليها أية قيمة إضافية وتتولى ترويجها بالسوق التونسية دون إعادة تصديرها، مستغلة في ذلك ضعف آليات الرقابة، فضلا عن أنّه كثيرا ما يقع التلاعب بكمية البضائع الموردة ونوعيتها حتى إذا ما اضطرت إلى إعادة تصديرها فإنّها تتمكن من الإفلات من التزاماتها الحقيقية.

رابعا: أمّا السبـــب الرابع والأخير لانتشار التجارة الموازية فهو يعود للنظام الجبائي الذي يسمح لغالبية تجار التفصيل وقطاع الخدمات باعتماد النظام التقديري، فاستمرار العمل بهذا النظام مكّن عديد التجار من بيع سلع متنوعة دون دفع أي أداء على هذه السلع بما في ذلك الأداء البلدي، فيكتفي التاجر بشراء كمية صغيرة من البضائع بالأسواق المهيكلة، ثم يتزود  بالجــــانب الأكــــبر من نفـــس البضاعة من المنتج مبـــاشرة، فاذا ما خضع للرقابـــة فإنه يستظهـــر بوصـــل الشـــراء المتعلق بالبضاعة التي تزود بها من السوق المهيكلة، وهكـــذا يتولى ترويج جانب كبير من البضــــائع دون خــــلاص أيّ أداء.

ومصادر البضاعة المتداولة في السوق الموازية متعددة كما أشرنا اليه، وهي تشكل ضررا يلحق بمداخيل الدولة. وينضاف إلى هذه المخاطر ما يهدد ميزان الدفوعات الذي شهد تراجعا في تدفق العملة الصعبة من المهاجرين بالخارج بما يناهز 500 مليون دينار سنويا، وذلك لأسباب متعددة، ولكن السبب الرئيسي هو استعمال الأموال المحولة من طرف التونسيين المقيمين بالخارج لتمويل جزء من التجارة الموازية، وهو ما يتعين أخذه بعين الاعتبار من قبل البنك المركزي حتى لا يساهم هذا النزيف في العملة الصعبة في مزيد الإضرار بسعر الصرف للدينار التونسي.

وثمّة قطاع آخر طالته بعد الثورة التجارة الموازية، وهو يهم التبغ. فقد صرح  وزير المالية أنّ الخسارة الجبائية للدولة في قطاع التبغ سنة 2015 قدرت بـ500 مليون دينار، وذلك على الرغم من أنّ شركات التبغ العالمية تؤكد أنّ حصة تونس من مبيعات التبغ العالمية ظلّت في المستوى نفسه، وهو ما يثبت أنّ جانبا كبيرا من التبغ أصبح يدخل تونس خلسة نتيجة لارتفاع سعر التبغ العالمي بالأسواق التونسية.

واستمرار هذا الوضع وتوسع التجارة الموازية لتشمل قطاعات جديدة خاصة بعد الثورة أصبحا مبعث قلق كما أنّ تطويق هذه الظاهرة ليس بالأمر الهين، لأنّ الماسكين بهذا القطاع أصبحوا يمتلكون أمولا طائلة ولهم نفوذ كبير في عديد المستويات. والمؤكّد أنٰ الوضع سيزداد تعقيدا اذا لم يقع الإسراع باتخاذ جملة من الإجراءات حتى يتمّ التخفيض شيئا فشيئا في حجم التجارة الموازية لتنحسر، إذا ما نجحنا في ذلك، في حدود 20% من حجم المبادلات التجارية سنة 2020، بعد أن  فاقت في السنوات الأخيرة نسبة الثلث من حجم المبادلات التجارية الاستهلاكية.

كيف يمكن التقليل من حجم التجارة الموازية؟

يفرض تناول هذا الموضوع  التعرض إلى مادتين تنشط فيهما التجارة الموازية في الشريط الحدودي، وهما البنزين والموز. فبالنسبة إلى قطاع المحروقات فإنّ تأثيره بسيط للغاية لأنّه يتعلق خاصة بالمناطق الحدودية ولا يستهوي كبار التجار، فالمواطن العادي بالمنطقة الحدودية يشتري البنزين من الجزائر بـ230 مليما للتر الواحد ومن ليبيا بـ190 مليما ويدخله إلى تونس بكميات محدودة لبيعه بالسوق التونسية التي يصل فيها سعر البنزين إلى 1500 مليم، فهي تجارة مربحة لهؤلاء المواطنين ولكن تاثيرها في  الاقتصاد التونسي ضعيف للغاية لمحدودية هذه الكميات من جهة، ولأنّ قطاع المحروقات مدعّم بتونس في السنوات الماضية، وبالتالي لا ينجم عن ذلك خسارة للدولة،  اللهمّ ما اعتبرنا خسارة أصحاب المحطات الموجودة بالقرب من المناطق الحدودية، لذلك وقع غضّ النظر عن هذا الموضوع منذ سنوات عديدة.

ٲمّا بالنسبة إلى الموز فقد أخضع توريد الموز بتونس إلى معلوم على الاستهلاك قدره دينار واحد عن كل كلغ. وكان ذلك بقصد حماية الفلاحين الذين قاموا بتجربة فاشلة لزرع الموز بالوطن القبلي، ولكن إذا أردنا القضاء على تهريب الموز فما على الدولة إلاّ أن تلغي الأداء على الاستهلاك فيصبح السعر الذي يبـــاع به المـــوز بتونس في حدود دينارين للكلغ عوضا عن ثلاثة دنانير ويقترب بذلك من السعر الذي يباع به في ليبيا والجزائر وهو 1,5 دينار للكلغ، فيتوقف تهريب هذه المادة.

ٲمّا في ما عدا هذين المادتين فإنّ تطويق التجارة الموازية يفرض اتخاذ جملة من المبادرات تتمثل فيما يلي:

  • مراجعة الأداءات المفروضة على جانب كبير من المواد المستوردة على غرارالتبغ وأجهزة التكييف والزرابي والمعدات المنزلية والكهرومنزلية والمعدات الالكترونية والمواد الغذائية، فكلما اقترب سعر البيع بالسوق المهيكلة من السعر المعمول به على المستوى الدولي إلاّ وتصبح التجارة الموازية مهمشة.
  • التقليص من الأداء على الشركات المقيمة حتى يقع عبر مراحل المساواة في الأداء بينها وبين الشركات المصدرة ليستقر هذا الأداء في حدود 15% وهو ما يمكنها من قدرة  تنافسية أكبر لمواجهة الوضع فتنخفض أسعار الكلفة، بما يمكن من تقريب السعر بالنسبة إلى المواد التي تبيعها مع السعر المطبق في مسالك التجارة الموازية كالتخلي تدريجيا عن النظام الجبائي التقديري؛
  • تكثيف أجهزة الرقابة الجبائية والقمرقية، فقد عاشت بلدان قريبة منا ظاهرة مماثلة لما يحصل اليوم ببلادنا ولما أيقنت خطورة الوضع بعثت فرقة خاصة لمقاومة التهرب الجبائي ويمكن الاستئناس بتجربة إيطاليا التي بعثت فرقة ماليّة Brigade des finances تقوم بعملها بالاشتراك مع سلك الديوانة، ممّا مكن الدولة من استرجاع هيبتها والتقليص من حجم البضائع المروجة عبر السوق الموازية و القيام باستخلاص حقيقي للأداء على القيمة المضافة.
  • إلى جانب هذه الرقابة الصارمة يتعين أن لا يغيب عن الإدارة التونسية وجود  مظهر آخر من مظاهر التجارة الموازية بدأ يفرض نفسه ونعنى بذلك التجارة الالكترونية، وعلى الإدارة أن تستعجل في وضع الآليات المناسبة لمراقبة هذا القطاع قبل أن يتوسع كما حصل في البلدان الأوروبية.

الحد من ظاهرة التجارة الموازية هو تحدّ آخر لا يمكن  مواجهته إلاّ باتباع تمشّ شجاع يقع اعتماده على مراحل تبدأ بالتوعية وتنتهي بالزجر. فهذا هو الطريق الأمثل إذا اردنا كسب الرهان.

عادل كعنيش

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.