أخبار - 2016.02.21

الصناديق الاجتماعية إلى أين ؟

الصناديق الاجتماعية إلى أين ؟

ابرزت ميزانية الدولة لسنة 2016 تراجع العجز في الميزانية، وقد بدا هذا التراجع منذ ميزانية 2013 وذلك تحت تأثير المؤسسات المالية الدولية، فقد كان العجز سنة 2013 في حدود 6,8 % من الدخل الوطني الخام ليتراجع سنة 2014 إلى حدود 4,1 مليار دينار أي ما يعادل 4,9 في المائة من الدخل الوطني الخام، وتواصل هذا التراجع سنة 2015 ليستقر في حدود 4,5 % وهي نسبة أقل من النسبة المتوقعة في قانون المالية لسنة 2015. 

يقف مسعى الحكومة عند هذا الحد، بل جاءت ميزانية 2016 مبنية على تراجـــع جديـــد في حجــم العجـــز  لتصــل النسبة إلى حدود 3,9 %، وهذا التراجع وإن كان إيجابيا في خصوص توازنات الدولة، فإنه حـــرم الجهـــات الداخلية من اعتمادات هامة كان بالإمكان تخصيصها للتنمية الجهوية، لكن هذا الحرص في السيطرة على نسبة العجـــز يحجب في حقيقة الأمر عجزا أكثر خطورة، وهو العجز المتأتي من الخسائر المتراكمة سواء في المؤسسات العموميـــة كالخطوط الجوية التونسية أو شـركات النقــل أو شــركة الفولاذ أو معمل الحلفاء بالقصرين، ينضاف لذلك الخسائر الهامة التي مـــا انفكـت تتـــراكم على مدى سنين طـــويلة بالصنـــاديق الاجتماعيـــة كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية. 

 
لقد اضطرت الدولة إلى ضخ أموال هامة بهذه المؤسسات والصناديق الاجتماعية متأتية خاصة من البنوك الوطنية، وبطبيعة الحال فإن الاعتمادات التي صرفت لضمان تواصل نشاط هذه المؤسسات والصناديق قد قلصت من فرص الاستثمار، لأن البنوك الوطنية قد سخرت أغلب إمكانياتها المالية لمواجهة هذا الوضع،  فتحمل هذه البنوك لتبعات الأعباء المالية لهذه المؤسسات أضرّ كثيرا بدور البنوك في الاستثمار نظرا إلى أن البنوك الوطنية الثلاثة تؤمن  نصف رقم معاملات المؤسسات المالية بالبلاد تقريبا.
 
يبدو حينئذ أن الوضع المالي للصناديق الاجتماعية هو وضع شديد التأزم، وهذا الوضع ناتج عن أسباب متعددة : أولها عدم ملائمة منظومة التغطية الاجتماعية اليوم مع المعطيات الديمغرافية بالبلاد ، فقد تغير الهرم السكاني خلال العقدين الأخيرين تغييرا جذريا، وبعد أن كان هذا الهرم في أواخر القرن الماضي ذو قاعدة عريضة حيث أن أغلب السكان كانوا من الشباب، فقد هذا الهرم اليوم مواصفاته الأصلية نتيجة ارتفاع عدد المسنين، فقد وقعت إقامة منظومة الضمان الاجتماعي في الستينات والسبعينات على أساس أن هنالك متقاعد واحد لكل خمسة أفراد نشيطين، وبالتالي كانت المساهمات الاجتماعية منخفضة نسبيا، ولكن هذه المعادلة تغيرت اليوم وأصبح هنالك متقاعد لكل ثلاثة أفراد نشيطين، ويتوقع أن يحتد الوضع الاجتماعي انطلاقا من سنة 2025 ليصبح هنالك متقاعد لكل شخصين نشيطين.  
أما من جهة أخرى فإن المساهمات الاجتماعية التي تدفع اليوم أصبحت لا تغطي الجرايات المدفوعة وهو ما يفرض إعادة تنظيم هذا القطاع قبل أن تنهار المنظومة بأسرها . 
صحيح أن البنوك العمومية تستغل حاليا لضخ الأموال اللازمة للصناديق الاجتماعية لخلاص الجرايات، لكن الوضع لا يمكن أن يتواصل بهذا الشكل وهو ما يفرض إدخال تغيير جذري على منظومة الضمان الاجتماعي. 
لو أجرينا مقارنة بين النظام المعتمد في تونس، والأنظمة الاجتماعية في البلدان الأجنبية لوجدنا أن هنالك منظومتين مختلفتين:
فهنالك المنظومة التي يعتمدها النظام الانقليزي والتي تعرف بنظام الرسملة، أي أن الفرد يساهم في منظومة الضمان الاجتماعي وتقوم إدارة الصندوق باستثمار هذه المساهمات في شتى القطاعات المربحة، فتقوى عائدات الصناديق الاجتماعية وهو ما يمكن هذه الصناديق من دفع جرايات للمنخرطين متأتية من المساهمات ومن الأرباح المسجلة. 
وهنالك المنظومة المتبعة بفرنسا وهي التي تقوم على فكرة التضامن وهو ما يجعل الفرد يدفع مساهماته حتى يتمتع بها متقاعد آخر على أن يأتي الوقت لينتفع هو بجراية التقاعد من مساهمات الأجيال المقبلة، وهذه الطريقة هي التي تتبعها الصناديق الاجتماعية بتونس، ولو أنه في مجال ضيق وقع بعث صندوق التأمين على الشيخوخة الذي يسند جراية تقاعد تكميلية على أساس منظومة الرسملة. 
لقد أثبتت المنظومة المعتمدة في تونس بالنسبة للتغطية الاجتماعية قصورها، لأن الصناديق الاجتماعية لم تعد تملك اليوم أي احتياطات مالية أو عقارية، كما أنها لا تملك استثمارات أو رقاع دولية وهو ما يهدد مواصلة دفع الجرايات في غياب المدّخرات المالية، لقد وصلنا إلى هذا الحد لأسباب متعددة منها ضعف المساهمات الاجتماعية وعمليات الخوصصة التي تمت في عديد من الحالات لمؤسسات عمومية، فوقع تسريح عمال هذه المؤسسات وإحالتهم على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية.
اعتمدت الدولة، والحالة هذه، على ضخ الأموال في هذه الصناديق عن طريق المؤسسات المالية العمومية، لكن بلغ اليوم عجز هذه الصناديق حدا غير مقبول إذ وصل في حدود 2015 إلى ما يناهز 1,1 مليار دينار، ويتوقع أن يصل هذا العجز إذا ما استمر الوضع على هذه الحالة إلى 4,6 مليار دينار في حدود سنة 2020.
إن التقارير المالية تبيّن أن الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية لم يعد يملك اليوم أي احتياطي مالي، في حين أن الاحتياطي الذي يملكه صندوق الضمان الاجتماعي لا يغطي أكثر من جرايات ستة أشهر. 
أسباب العجز كما أشرنا هي متعددة، ومن أهمها ضعف المساهمات الاجتماعية المدفوعة وارتفاع عدد المتقاعدين نتيجة لتهرم سكان البلاد، وارتفاع نسبة الأمل في الحياة، وتزايد عـــــدد المحالين على التقاعد قبــــل الأوان إثر عمليـــــات الخــــوصصة لعديــــد مــــن الشركات ذات المساهمة العمومية، ويضاف لذلك تدني دفع المساهمـــات الاجتماعية مـــن طـــرف المؤسسات العمومية وحتى الخاصة نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه المؤسسة الاقتصادية بالبلاد، وهذه الأسباب تحتم اليـــوم مراجعــة باتت جدّ متأكدة لمنظومـة الضمـان الاجتمـــاعي حتى لا تتوقف هـــذه الصنـــــاديق في يوم من الأيام عن دفع جرايات المتقاعدين .
وللخروج من هذا الوضع فإن الأمر لا يخلو من حلين: إما الترفيع في نسبة المساهمات والتمديد في سن التقاعد ليصل إلى خمسة وستين عاما، بعد أن ارتفع الأمل في الحياة، وتحسين طريقة الاستخلاص واتباع سياسة أكثر صرامة بالنسبة للمؤسسات والأشخاص الذين لا ينخرطون في الصندوق أو يصرحون بأجور أقل من قيمتها الحقيقية، مع الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من المساهمات الاجتماعية الحالية هي غير خالصة خاصة بالنسبة للمؤسسات العمومية والدواوين، أو التخفيض في قيمة الجرايات وهو أمر صعب للغاية ويتنافى مع مبدإ هام وهو الحق المكتسب. 
إذا ما استبعدنا هذه التصورات التي تبدو مؤلمة للغاية، فإنه يكون من الأنجع مراجعة المنظومة الاجتماعية بطريقة أخرى، وذلك بإقرار ضريبة اجتماعية على غرار ما وقع اعتماده بفرنسا، حيث بدأ إقرار هذه الضريبة في حدود 1% عن كل المداخيل لتصل اليوم إلى 9% ، وهي تطبق على كل المداخيل دون أي تدرج كما أنه من الممكن اعتماد طريقة جديدة في التغطية الاجتماعية، تقوم على المزج بين النظام الفرنسي والنظام الإنقليزي حيث تكون جراية التقاعد مبنية على مناصفة، النصف الأول قار يقوم على أساس النظام التضامني، والنصف الثاني متغير يقوم على أساس نظام الرسملة. 
إنها تصورات تحتاج إلى دراسة معمقة قبل أن نصل إلى سنة 2025 عندما يصبح هنالك متقاعد لكل نشيطين.
إلى جانب العجز الذي تلاقيه الدولة من جراء المنظومة الاجتماعية الحالية، فهنالك عجز متراكم للمؤسسات العمومية وهي مؤسسات متعددة يتصدرها ديوان الزيت والخطوط الجوية التونسية ومعمل تكرير النفط ببنزرت ومعمل الفولاذ ومعمل الحلفاء بالقصرين وعدد كبير من شركات النقل. فقد بلغ العجز سنة 2010 إلى حدود مليار دينار، وهذا العجز تفاقم اليوم عمّا كان عليه الوضع سنة 2010، بعد أن التحق ديوان التبغ والوقيد بقائمة المؤسسات التي تعيش عجزا  ماليا كبيرا، ولم تعد الدولة قادرة على مجابهة الوضع خاصة بعد تدني مداخيل المجمع الكيميائي التونسي ومداخيل الشركات البترولية العاملة بتونس.
بالرغم من حرص الدولة على تحديد نسبة العجز في الميزانية عند قيامها بإعداد ميزانية 2016، فإن هذا الحرص تقابله مخاطر  متزايدة بسبب ارتفاع نسبة العجز العمومي جراء الوضعية الصعبة التي تعيشها مؤسسات الضمان الاجتماعي والمؤسسات العمومية، وهو ما يفرض فتح هذين الملفين والتفكير في بدائل جديدة من شأنها أن تحمي منظومة الضمان الاجتماعي من الانهيار، لأنّ بقاءها أمر أكثر من ضروري لطبيعة دورها المعاشي، يضاف إلى ذلك ضرورة التفكير في طريقة لإنقاذ المؤسسات الوطنية التي أصبحت مهددة بالتوقف عن الدفع لولا مساندة الدولة لها. 
إن توصيات المؤسسات المالية الدولية يتجه كالعادة نحو إعادة هيكلة هذه المؤسسات، ونعني بذلك خوصصتها، ولكن هذه الحلول قد لا تكون مجدية في الوقت الحالي وربما يكون من الصالح التفكير في تحويلها إلى مؤسسات مشتركة يتواجد فيها رأس المال العام والخاص، أما السكوت على هذا الوضع فإنه أصبح أمرا لا يطاق، لأن الدّين الذي وصلت إليه الخطوط الجوية التونسية، على سبيل المثال، قد تجاوز الآن المليار دينار .
الوضع إذن صعب والمعالجة باتت جدّ ضرورية.
الأستاذ عادل كعنيش

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.