حزب النهـضة في زمن "ناقل الريشة"
نحن، من المنظور الثقافي، في زمن «ناقل الريشة». هو زمن لا يُجدي معه تردد أو مداورة، ذلك أن «ناقل الريشة»، وفق التراث الشعبي، يجد نفسه أمام اختيار «إلزامي»، لإنه نادم سواء أأخذ معه الريشة أم تركها. معنى ذلك أن إنسانية هذا الزمن تتكشّف بجلاء فتبرز في القدرة على الاختيار، لكن مع ضرورة الرضا بالتناهي والمحدودية. هذا هو الزمن الجديد الذي دشّنته الثورة تونسيا وعربيا. إنه الزمن الذي يؤرق الجميع والنخب السياسية تحديدا، لأنها وهي التي نَشَأت وتخرّجت بثقافة ملتبسة بعَلْمنة خاصة لا تحتمل الإمكان والتعدد، بل تُرسي مواقفها على شمولية وثوقية حديّة مسكونة بنزوع إلى المسايرة وركون إلى المعهودية.
أكثر القوى التونسية تعرضا لمعضلة هذا الزمن الجديد هي قيادات حزب حركة النهضة وقواعدها. إنهم، رغم كل المظاهر، ليسوا بمنجاة من تلك الثقافة المُلتبسة بعلمنة خاصة جعلتهم ينخرطون فعلا منذ عقود في عمل جماعي شبه مُسَيّس إلا أنهم صاروا، خاصة بعد سنوات الثورة، تنظيما سياسيا الجانبُ الدّعوي فيه مُلحَق وباهت. ثم إن المعهودية السائدة بين عموم النخب التونسية جعلتهم لا يقوون على القيام بفصل حاسم بين السياسي والدّعوي رغم أنه لا مندوحة لهم عن المضي في تأسيس حزب سياسي مدني. مع ذلك فهم لا يتمالكون عن التأكيد بأنهم حزب ذو مرجعية إسلامية.
كيف الخروج من هذا المأزق التاريخي في زمن لا يحتمل تسويفا أو تجاهلا؟
عند تأمل خصائص خطاب حركة النهضة ومواقفها واختياراتها تتضح طبيعة الأزمة التي يواجهها غالب النهضويين والتي كثيرا ما اعتُبرت ازدواجيةً في الخطاب بينما أساسُها معضلةٌ مفاهيمية مرتبطة بسياق نشأتهم وما ترسّخ فيها من مصاعب وعقبات تعود في الغالب إلى خصوصية الوضع التونسي الثقافي والسياسي. لتجاوز ذلك كان الأمر يتطلب جهودا معرفية عَصيّة لم تحفزها سياسات إدماجية من القوى المنافسة التي ظلّت محكومة بالتوجّس والرفض لتيار الهوية. صميم أزمة النهضة تتحدد في تقاطع مجالي الثقافي-القيمي والاجتماعي-السياسي والذي تبرزه خاصة ثلاثة مفاهيم كبرى هي: الحركة، الدعوة والمرجعية الإسلامية.
لقد انطلقت النهضة حركةً دَعَويّة ثم حين تطورت فكريا صارت إخوانية ذات حس نهضوي. لقد تركّز رهان الجماعة الإسلامية في تونس على الهوية عنصرًا أساسيا في النهوض دون أن يتحوّل ذلك الحسّ إلى «نظرية في النهضة» متولّدة عن ذلك الحسّ وما يتخلّق عنه من فكر صانع لمناهج تفسيرية للمشروع وما يتطلبه من اختيارات سياسية واجتماعية وأنماط تقنينية تصوغها.
المفارقة الكبرى التي عاشها إسلاميو النهضة منذ أن أدركوا أنهم جماعة مُستبعدة من التاريخ الوطني الحديث والمعاصر هو أن اعتمادهم خطابَ الهوية، الذي يستحضر الذاكرة الجماعية بتمثّلات متعددة ويرفض مقولة الانقطاع التاريخي وموت الذات، يظلّ قاصرا عن القيام بتفسير ذلك التاريخ الذي استُبعدوا منه. بقيت الحركة رافضة التسليمَ بالهزيمة الحضارية أمام الآخر الغازي وأتباعه دون أن تبني وعيا بالأسباب الموضوعية لاستبعادهم من التاريخ الوطني ولانتصار التحديث القاطع مع الهوية والثقافة الخاصة. كانت في ذلك كأنها لم تدرك أن فهم التاريخ هو الشرط الأول لإعادة الانخراط فيه. هو عين ما نبّه إليه مالك بن نبي حين قال: «نحن في العالم الإسلامي نعرف شـيئا يـسمَى الوقت لكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم ولسنا نعرف فكرة الزمن المتصلة اتصالا وثيقا بالتاريخ».
أول خلاف داخلي عاشته الحركة في تونس، في الربع الأخير من القرن الماضي، يؤكد هذه المفارقة. لقد اعتُبر التصدي للاستتباع الثقافي والسياسي غير كافٍ إذ لا بد من التوصّل إلى مجالات القصور عن إنتاج وعي تاريخي يفضي إلى خطاب يمكّن من بدائل و حلول ناجعة للعصر. ذلك ما دعا إلى تأسيس مجلة 15/21 للفكر الإسلامي المستقبلي، تجديدا للوعي وتركيزا لمراجعات نقدية تتجاوز المأزق التاريخي الذي تغذيه أدبيات إرضاء الذات والمنافحة الحماسية الذاهلة عن مواطن الخلل في الفكر والممارسة الحركيين.
اليوم أعلنت المسيرة الثورية في تونس نهاية إبعاد خطاب الهوية عن المساهمة في بناء التاريخ الوطني إضافة إلى ما يفرضه السياق المعولم على نفس ذلك الخطاب من ضرورة الاقتدار على الراهنية والفاعلية. هذا ما يلزم القائمين على حظوظ النهضة بحسم مسوغات حضورهم الموضوعية ومصداقية تحليلهم وجدارة تعبيراته وتنوّع بدائلهم وتميزها.
ما المقصود اليوم من «مرجعية إسلامية» بعد أن حسم دستور 2014 مرحلة الاستقــطاب ليعتبر أن تلك المرجعية ليست مجالا للصراع السياسي؟
- اكتب تعليق
- تعليق