عادل كعنيش : عدالة انتقالية وليست انتقامية

عادل كعنيش : عدالة انتقالية وليست انتقامية

مشروع قانون المصالحة الاقتصادية مازال يثير جدلا على الساحة السياسية اذ يظن البعض انه جاء محاولة لسحب البساط من مؤسسة الحقيقة والكرامة بينما يرى البعض الاخر عكس ذلك بالتمعن في مقتضيات الدستور  الجديد نجده ارسى مفهوم العدالة الانتقالية لتشمل كل الجرائم سواء المتعلقة بالاعتداء على الحقوق والحريات العامة او الجرائم المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام في هذا الاطار سن القانون المتعلق بمؤسسة الحقيقة والكرامة فكان الهدف منه الكشف عن الحقيقة في خصوص التجاوزات التي حصلت ضد البعض من المواطنين و التعويض للمتضررين منهم من جراء هذه الجرائم المتعلقة اساسا بالحريات ولكن الجرائم التي تخص الفساد المالي والاعتداء على المال العام لم يقع التركيز عليها بل اقتصر على التعرض لها صلب الفصل 8 من هذا القانون، لذلك جاز القول بان مؤسسة الحقيقة والكرامة لم تاتي لمعالجة قضايا الفساد المالي بل تخص اساسا الجرائم المتعلقة بالاعتداء على الحقوق والحريات العامة وهو ما يفسر التاخير المفرط في معالجة الملفات المتعلقة بالمال العام والفساد المالي هذا التاخير الذي اضر كثيرا بالحياة الاقتصادية حتم التفكير في بعث هيئة جديدة تعنى بالمصالحة في الجرائم الاقتصادية وكل ذلك في اطار ما سمي بالعدالة الانتقالية ولكن هذا التمشي يفرض ادخال تغيير على القانون المتعلق بمؤسسة الحقيقة و الكرامة حتى لا تكون مختصة بقضايا الفساد المالي فيقع تجنب اي تداخل بين المؤسستين.

اذا كان هذا هو التمشي الذي وقع اعتماده الى حد الان فانه يتجه بالمناسبة تحديد مفهوم العدالة الانتقالية ما هي اهدافها وكيف بدا هذا المفهوم بالظهور على الساحة الدولية؟

مفهوم العدالة الانتقالية بدا بالظهور على المستوى الدولي بداية من الثمانينات في القرن الماضي اذ يلجا اليه كلما حدث انكسار خطير في مجتمع معين فتطغي فئة على فئة اخرى فهو ياتي لوضع حد للماساة  التي عاشتها مجموعة معينة بمناسبة سقوط نظام سابق او في اطار استمرارية للنظام القديم الذي يقدم على اجراء المصالحة بين افراده كما حصل بالمغرب فالهدف الاساسي من العدالة الانتقالية هو حماية الحقوق من الزيف وجبر الضرر للضحايا والقيام باصلاحات عميقة من اجل تجاوز المرحلة السابقة بغية ارساء مصالحة حقيقية بين افراد المجتمع.

بدا مفهوم العدالة الانتقالية في الظهور بامريكا الجنوبية وبالاخص بوليفيا والارجنتين وسلفادور وفي عدد من البلدان الافريقية كاوغندا ونيجيريا وجنوب افريقيا وحتى المغرب التي عرفت فترات صعبة في تاريخها في عهد الحسن الثاني وقد اقدم نجله محمد السادس على القيام باصلاحات للملمة الجراح وانقاذ عرشه فكان الهدف من هذه الاصلاحات تجاوز الانتهاكات الخطيرة التي حصلت في عهد سلفه دون ضغينة او احقاد فهي مقاربة جديدة على خلاف ما كان يتم في القرون الوسطى حين سادت آلية التصفية للشبهة l’inquisition  فكان يتم تصفية افراد او مجموعة كلما حامت حولهم شبهة في ارتكابهم لجرائم حصلت في فترة سابقة لقد اقدم المغرب سنة 2003 على بعث هيئة الانصاف والمصالحة واوكلت لها مهمة التحقيق في الاضطهادات التي حصلت بين 1961 و1999 اما في جنوب افريقيا فتم العفو على كل مرتكبي الجرائم الخطيرة التي حصلت في فترة النظام العنصري السابق وتوصل الطرفان المتنازعان الى تسوية تاريخية ادت الى احداث مصالحة حقيقية بين البيض والسود فكانت تجربة ناجحة ادت الى صلح بعد عقود من الانكسار المتمثل في طغيان البيض على السود وسلوك سياسة قوامها التمييز العنصري.
هذه التجارب الناجحة ادت الى استئناف مسيرة التنيمة بسرعة كبيرة ولكن في بلاد اخرى لم يكتب للمصالحة ان تسجل نجاحا يذكر  كما حصل في سيريلنكا او نيجيريا لان مسار العدالة الانتقالية قام على اساس منطق التشفي.
ازاء النجاح الذي عرفه مسار العدالة الانتقالية في بعض البلدان اقدم الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان على سن قانون انموذجي للعدالة الانتقالية فصدر القانون الانموذجي  بتاريخ 23/8/2004 حتى يقع الاستئناس به من طرف الدول التي تريد ارساء هذا النظام القانوني الجديد.

لكن هل يجوز القول ان تونس هي في حاجة الى ارساء العدالة الانتقالية؟

ان العدالة الانتقالية تاتي عادة اثر صراعات اتنية او فئوية تحدث انشطار عميق في المجتمع تحتم بانتهائها اللجوء الى العدالة الانتقالية لمعالجة مخلفات المرحلة السابقة وذلك بكشف الحقيقة حول ملابساتها والتعويض عن الاضرار التي لحقت بالبعض واحداث مصالحة حقيقية ولا يتم ذلك الا باقرار نظام يتسم بالمرونة فهل هنالك في تونس شق مارس العنف على حساب شق اخر او طبقة على حساب طبقة اخرى؟

لقد صدر قانون العدالة الانتقالية ووقع بعث مؤسسة الحقيقة والكرامة لينسحب على الفترة التي امتدت بين جويلية 1955 الى 2014 غير انه يمراجعة هذه الفترة تبين انها كانت مليئة بالانجازات الاقتصادية والاجتماعية وكانت هنالك دولة قائمة الذات سعت الى تحديث المجتمع وتطويره دون اي حيف او انحياز لمجموعة على حساب اخرى وباستثناء الفترة الاولى من الاستقلال التي عرفت صراعا بين الدستوريين وانصار المرحوم صالح بن يوسف  وما خلفته هذه الصراعات من بعض التصفيات فان الفترة الممتدة من سنة 1961 تاريخ اغتيال صالح بن يوسف الى موفى سنة 2010 لم تسجل حدوث اي انشطار بالمجتمع التونسي بل كان هنالك من حين لاخر نزاع سياسي بين الدولة التي كانت تسعى الى المحافظة على السلطة واطراف اخرى كانت تسعى لافتكاكها مما جعلها تقابل بتعامل امني كبير ولكن هذه الاحداث لم تكن حاملة لهم الشان العام في تونس فالاحداث السياسية والاجتماعية التي عرفتها تونس منذ سنة 1961 الى 2010 لا يمكن ان تكون مبررا لاقامة عدالة انتقالية فما حصل في البلاد بين الحين والاخر هو شبيه بما  حدث بفرنسا ابان الاحداث الطلابية سنة 1968 او ماحصل في ايطاليا والمانيا واليابان بمناسبة تصديها للحركات اليسارية او ما حصل في الولايات المتحدة في تعاملها مع قضية السود هي اذن احداث سياسية او هزات اجتماعية لم تحدث انشطارا في المجتمع ولم تبرز كاحداث ترتب عنها انتهاك فضيع لحقوق الفرد فلم يكن هنالك اي مبرر لوضع قانون للعدالة الانتقالية خاص بها السمة الغالبة في المجتمع التونسية انه مجتمع كان هادئا في اغلب فترات حياته من 1955 الى 2010 ولو انه شهد من حين لاخر احداث اجتماعية وسياسية الى غاية موفى 2010 ولكن بقيام الثورة تحول الوضع الى انشطار مجتمعي خطير مارسته شريحة اجتماعية على شريحة اخرى وتم اقصاء الدستوريين من الحياة السياسية بدعوى انهم كانوا تابعين لمنظومة الاستبداد والفساد في حين ان غالبية الدستوريين خدموا البلاد بكل امانة وساهموا في بناء الدولة الحديثة.

ما حدث بعد قيام ما سمي بالثورة اكتسى في بعض الحالات انتهاك خطير لحقوق الانسان فقد اقصي الكثير من مناصبهم وصودرت املاك البعض الاخر للشبهة وغرقت البلاد في بحر من الاضطرابات وتصفية الحسابات التي اضرت بكامل مؤسسات الدولة.

لذلك اقول ان هذه الفترة التي بدات منذ 14 جانفي 2011 هي فترة مليئة بالتجاوزات فاذا كانت هنالك فترة تحتاج الى عدالة انتقالية فهي هذه الفترة بالذات التي بقيت الكثير من احداثها غامضة فكيف سقط النظام السابق ؟ وكيف قتل المئات من المواطنين الابرياء؟ وكيف تمت محاكمة ما سمي برموز الفترة السابقة ؟ ولماذا اوقف البعض ولم يوقف البعض الاخر ؟ وكيف قتلت بعض الشخصيات الوطنية ؟ وكيف اخرجت الترويكا من من الحكم ؟
فالكثير اصبح يتوق لمعرفة اسرار هذه المرحلة ويرغب في فك طلاسمها.

ان هذه الفترة بالذات هي التي باتت تحتاج الى عدالة انتقالية للوصول لكشف الحقيقة في خصوصها والتعويض لاسر الضحايا واجراء مصالحة حقيقة تزول بمقتضاها كل الاحقاد.
اما اذا استمر الوضع  على حاله فان الاوضاع سوف لن تستقيم مطلقا فنحن نحتاج الى تحديد البوصلة حتى لا يقع استدامة للمرحلة الحالية.
ان معرفة ما حدث يوم 2011/1/14 هو ضروري حتى لا تتكرر من جديد مثل هذه الاحداث.

اما اذا واصلنا في اتباع الأسلوب الحالي فان ذلك من شانه ان يكرس عدالة المنتصر دون ان تنتفع البلاد مطلقا فالعدالة الانتقالية تكون لاستئناف عملية البناء وليست للانتقام والتشفي وهو ما نلمسه من خلال الاحكام الانتقالية للدستور الجديد.

ما عشناه خلال السنوات الماضية هو محاولة لمحاكمة لدولة الاستقلال وقد باشرت المنظومة القضائية دورها في اجواء من الاحتقان التي عاشها المجتمع التونسي فتارجحت مواقفها بين السعي للادانة دون التقيد بالنصوص القانونية من طرف البعض وبين الوقوف بكل شموخ ومسؤولية لاعطاء كل ذي حق حقه من البعض الاخر وهو ما نتج عنه بروز عدالة تقليدية مضطربة ادى الى سن عدالة انتقالية وكانها ذات صبغة انتقامية وما زاد الوضع تازما وارتباكا ما احتواه الدستور في باب الاحكام الانتقالية من احكام تتعارض بصفة مطلقة مع المبادئ الكونية التي أقرتها لوائح حقوق الانسان.

فضرب بعرض الحائط بمبدا عدم رجعية القوانين وشخصية العقاب وسقوط الدعوى بمرور الزمن وقرينة اتصال القضاء وهو تضمين خطير لا يوحي مطلقا اننا ارسينا الارضية الصلبة لاية مصاحلة حقيقة.

فالمطلوب اليوم هو تنقيح البعض من الفصول التي جاءت بالاحكام الانتقالية للدستور والتخلص من المعوقات التي ضمنت به والتي تتعارض  مع المبادئ الكونية وارساء هيئة للمصالحة في خصوص التجاوزات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال مع تعديل في قانون هيئة الحقيقة والكرامة حتى لا يقع تداخل في الاختصاص بين مؤسسة الحقيقة  والكرامة وهيئة المصالحة وكل ذلك لفض مختلف المسائل التي تعلقت بالفترة السابقة بغية الإسراع بإرساء مصالحة حقيقية لتعود الثقة في مؤسسات الدولة.

صحيح اننا لا ننتظر ان تدر المصالحة الاقتصادية على البلاد اموال كبرى ولكن المهم ان نعيد الثقة لدى الجميع حتى يسترجع  الاستثمار نسقه العادي.

لقد سئل احد المستثمرين الأجانب عن الأسباب التي تجعله لا يقدم على الاستثمار بتونس في الوقت الحالي فاجاب ان الاستثمار الأجنبي سيعود لتونس عندما يقتنع المستثمر الوطني انه اصبح بمقدوره ان يعود لنشاطه بصفة طبيعية.

لذلك فان قانون المصالحة الاقتصادية بات امرا ضروريا لارجاع نسق الاستثمار الى معدلاته العادية كما ان دور مؤسسة الحقيقة والكرامة يتعين ان ينصب على كشف الحقيقة حول جرائم التعذيب والاضطهاد بغية التعويض للضحايا ولإرساء مصالحة شاملة بعيدة عن منطق التنكيل وتصفية الحساب الى جانب المصالحة الاقتصادية التي باتت ضرورية اكثر من اي وقت مضى.

فبدون ذلك ستظل سنوات وسنوات ونحن نحاسب بعضنا البعض دون اية فائدة تذكر.
سلوكيات كهذه يتعين ان نتجنبها بالكامل لطي مرحلة تاريخية هامة كانت لها ايجابيات وسلبيات ولكن للأمانة كانت  ايجابياتها اكثر من سلبياتها.

الاستاذ عادل كعنيش

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.