رحلة‭ ‬في‭ ‬السّنـــوات

رحلة‭ ‬في‭ ‬السّنـــوات

سنة 2057: كأنّ سنة 1985 تكرّر نفسها في سنة 2057، سنتان شبيهتان مثل قطرتَيْ ماء؛ قيّضت لي ظروف العمل أن أتردّد باستمرار على مستشفى الرّازي للأمراض العقليّة؛ ولم أتوان في قبول المهمّة، فقد كنتُ أحسب نفسي بين بين، يتنازعني نصيب من عقل ونصيب من جنون؛ وكانت أمّي، طيّب الله ثراها، تقول، كلّما رأت فوْرات غضبي«هذا ولد مجنون! مسكينة هي المرأة التي تتزوّجه!»، ولم أكن أغضب منها، فقد كنتُ أحسبُ أنّي أَحَبّ أولادها إليها؛ أمّا أبي، فلم يكن يخفي المكانة الأثيلة لأخي منصف في نفسه، وهو أكبرنا في الذّكور، فيقول: «منصف هو عشيري!»؛ وكنت أحسبُ أنّي أقْرب إخوتي إلى أبي طَبْعا ومزاجا، صاخب الغضب، ولكنّه غضب، سريعا ما يخمد، فلا يُخلّف وراءه أثرا، مثل بارق الفوشيك؛ ومع تقدّم العمر خفتتْ فورات الغضب وتركتْ مكانها لسكينة عجيبة لا تزعزعها جسام الأحداث؛ وصاحبني المدير، يطوف بي على عنابر المستشفى، وهو لا يكفّ عن الحديث عن قطّته«هي قطّة عجيبة، لا أدري كيف استقرّت في بيتي، وألفَتْني، حتّى تكاد لا تفارقني، تنام عند سريري، وترافقني إلى السّوق، والأغرب أنّها صارت تصاحبني هذه الأيّام في ذهابي إلى المسجد، وتنتظرني خارج البهو، في مكان ظليل، ريثما أفرغ من صلاتي»؛ وأنا لا أدري بما أعقّب، فأقول دون انتباه أو حساب، وتلك عادة لم أستطع منها خلاصا، وأنا أُلقي الكلام على عواهنه:«هذه قطّة فاضلة، ربّما أنعم الله عليها، فدخلتْ ملّة الإسلام لتؤدّي وراءك ركعة أو ركعتين»؛ ونسِيت أن أسأل الرّجل عن اسم قطّته؛ حتّى بَلَغْنا بيت الأموات، فدفع الباب الذي لا يُقفل بقفل، فلمّا رأى عجبي، أجابني قبل أن أسأل:«وما فائدة القفل؟ ليس بيننا وبين الموت حجاب! ولولا ضرورة التّبريد، لنزعتُ البابَ أصلا!»؛ واستقبلتنا نسمة باردة لذيذة، نزلتْ علينا بردا وسلاما في ذلك اليوم القائظ؛ وأنا أدير بصري في القاعة المكسوّة بالأسمنت الرّطب، وفي وسطها مصطبتان مثل سريرين أو قبرين؛ وعلى إحداهما جثّة ممدّة؛ والمدير يبادرني:«هذه ليست جثّة؛ هذا أحد النّزلاء، لا يجد راحته إلاّ هنا؛ كثيرون هم الذين يتمتّعون بالقيلولة في هذا المكان»؛ وأشار إلى يمينه:«هذه الغرفة أكثر برودة، نحتفظ فيها بالجثث مُدَدًا أطول، إذا تأخّر أهل الميّت، وقد يأتون وقد لا يأتون»؛ وتركني وانصرف، وأنا عنه مشغول بالرّطوبة الزّائدة التي بدأت تنخر الجدران المهترئة؛ وانفرج باب الغرفة الباردة، وخرج عليّ منها رجلان أمردان، وهما يهزّان صاحبهما الذي ينام على المصطبة:«استيقظ يا رجب! عندنا ضيف»؛ وأتوجّس شرّا، فأنصرف إلى الباب، فإذا هو عصيّ، لا يُفتح، وأنادي:«يا سي رشيد، أين أنت؟ يا سي رشيد»؛ ودنا منّي أحد الثّلاثة:«هذا باب بلا مفتاح، ولكن لا تجزع، هل رأيت تلك الكوّة؟»، وهي كوّة في حجم قبضة اليد، لا يكاد العصفور الصّغير ينفذ منها، «من هناك سنخرج جميعا»؛ ثمّ مدّ يده يتحسّس جسدي:«شحمك كثير، وإذا بقيت على هذه الحال، فلن تقدر أن تخرج! يجب أن نشفط هذا الشّحم»؛ ثمّ سوّى سبّابته أمام عينيه«هل ترى هذه الإصبع؟ يجب أن تصير نحيلا كهذه أو حتّى أكثر! ولكن لا تجزع؛ سنتولّى أمرك؛ سندْعَكُكَ حتّى تصير ليّنا كالعجينة، وسندكّ عظامك حتّى تصير كالدّودة، وبعدها تمرق من الكوّة في سلام»؛ وأنا أنادي«يا سي رشيد! يا سي رشيد! أين أنت؟»؛ والرّجل الذي مازال ممدّدا على المصطبة ينفجر بالضّحك: «يا مسكين! أنت رجل مجنون! هل صدّقت الحكاية؟»؛ وأسقط في يدي، لم أكن عاقلا ولا مجنونا بما فيه الكفاية!.

الصّحبي الوهايبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.