العنـــف‭ ‬السلفـــي ‬على‭ ‬أبـواب‭ ‬تـــونـس‭ ‬

العنـــف‭ ‬بالسلفـــي ‬على‭ ‬أبـواب‭ ‬تـــونـس‭ ‬

تؤكد الأحداث الفاجعة أن «السلفية الجهادية»  تريد التمدد في الربوع التونسية للتموقع في الإقليم المغاربي- الإفريقي المُحاذي لأوروبا الغربية عبر خطاب عنيف وإرهاب مفعّل لـ«استراتيجية التوحش». سبقت التمدد الحالي موجتان سلفيتان تعود الأولى إلى بداية القرن 13هـ / 19 م عند بلوغ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية أوجها بما أحرزته من انتصارات على خصومها في مقدّمتهم السلطات العثمانية

أصداء هذه الدعوة وصلت تونس عن طريق الحجيج والعلماء العائدين من البقاع المقدسة ومع رسائل السلفية إلى باي تونس حاملة خطابا طهوريّا مقاوما للبدع. بعد قرابة القرن وصلت موجة ثانية في صيغة إصلاحية وافدة من مصر هذه المرة. تمثّلت أبرز تعبيراتها في زيارة الشيخ محمد عبده لتونس سنة 1903 بعد زيارته الأولى لها سنة 1884 قصد ربط النخب التونسية بمقر السلفية الإصلاحية الناشئة في القاهرة.

كانت زيارة عبده الثانية حدثا بارزا إذ أن الشيخ قد حدد لنفسه منهجا إصلاحيا متميزا يعتبر السلفية فهما للدين «على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لتردّ من شططه وتقلّل من خلطه وخبطه لتتمّ كلمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني». هي سلفية تقاوم البدع والتقليد بعودة تحوّل حقبةًتاريخية إلى مرحلة كلاسيكية - مرجعية لإظهار ما تحتويه من إمكانات وتنوعات وطاقات على التوظيف المتعدد وفق الحاجات المستجدة. هو تمثّلٌ مغاير لطبيعة السلفية الطهورية الأولى يساعد على استيعاب إيجابيات الآخر في مستوى القيم والمفاهيم وللاستفادة من المنجزات العلمية والمدنية للوصول إلى نديّة حضارية. أثار هذا التمثل الجديد جدلا واسعا مثريا بين علماء الزيتونة وطلبتها وبين نخبها الصاعدةمما عجّل بتركيز إصلاحات سياسية - اجتماعية وفكرية تونسية أتاحت المجال لظهور نخب وطنية شابة تجاوزت التيار التقليدي.

قبل تناول أبرز الخصائص الحضارية التي واكبت الموجة الثالثة يتأكد إبراز السياق التاريخي- الحضاري الذي تتنزل فيه الموجتان السابقتان. بالعود إلى سياق الموجة الأولى ينبغي التذكير أن السلفية النجدية زامنتها رجّة «التنظيمات» العثمانية التي أدخلت نخب العالم الاسلامي في حراك فكري وسياسي لإصلاح مؤسسات الإدارة والعسكر والاقتصاد والمواصلات والتعليم من أجل بناء مستقبل مغاير. جوهر هذا السياق العثماني صاغه ابن أبي الضياف في أنه يقبح بمعاشر المسلمين «أن يغصبنا غيرنا على أعظم أصول ملّتنا وهو العدل الذي يحبه الله و لا يحب غيره». أهم ما في هذا التزامن الذي صاحب الموجة الأولى هو ما مكّن حركة الأفكار والمؤسسات في تونس الحديثة وفي العالم العربي الإسلامي من التضييق على الخطاب العنيف للسلفية النجدية التي لم تَقْوَ على مناهضة الحراك الثقافي الفكري والسياسي الاجتماعي المتجاوز منظومة العصر الوسيط بما اعتراها من جمود فكري وتصوف سلبي ونكوص حضاري.

ما حصل في سياق الموجة الثانية التي وصلت تونس مطلع القرن 14هـ / 20م كان تكريسا جليّا لذلك الحراك الكبير في ما أنشأ من منظومة مدنية وطنيةكانت مستسيغة للطبيعة الإصلاحية للسلفية في صياغتها المصرية.

مقارنة فقرة من رسالة عبد الله بن سعود إلى باي تونس في العقد الثاني من القرن التاسع عشر بنص محاضرة الشيخ محمد عبده في تونس مطلعَ القرن العشرين يُبرز الفرق الهائل بين خصوصية السلفيتين والسياقين.

ورد في رسالة الوهابي: قال الله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».... وإذا عرفتَ هذا فمعلوم ما عمّت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله والتوجّه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدى وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلاّ رب الأرض والسماوات وكذلك التقرّب إليهم بالنذور والقربات... هذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى نصرنا الله عليهم... وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد أن نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنّة رسوله: «فمن لم يُجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسِنان».

بعد ما يقارب القرن، حاضر الشيخ عبده، السلفي الإصلاحي، عن «العلم وطرق التعليم» في رحاب «الخلدونية» التي أنشأها الإصلاحيون رديفا للمؤسسة الزيتونية تكمّل ما نقـــص مـــن معــارفها وتفتح للناشئين من الطلبة  آفاقا في البحث تجعلهم أقدر على مواجهة العصر. يومَها أنصت شيوخٌ زيتونيون وروّاد الخلدونية وأعضاء حركة الشباب التونسي ومن تابع وساهم في النشر بمجلة المنار منذ تأسيسها سنة 1898 إلى سلفية أخرى مدنية.

تحدث عبده عن معنى العلم وكيف ينبغي أن نتعلم؟ وهل لدينا إيمان صحيح؟ مع تمهيد منهجي أساسه أن الله «يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم بدون قيد ولا حدّ» بينما عَمَلُنا «مُنافٍ لما كتبه أسلافنا وما تركوه من جواهر المعقولات في الكتب النفيسة المستودعة بخزائننا».

فصميم محاضرة «الخلدونية» تجذيرٌ لمعنى السلف يستوعب الازدهار الإسلامي الذي لم يتحقق إلا بحريّة التفكير التي هي غاية التعلّم وأن السلف الصالح كان ينطلق من نفس قيمة الحريّة التي يتعذّر تحقّق أي تقدّم دونها. في هذا يقول عبده: «القديم الحقيقي هو ما ندعو إليه ولا نجاح لنا إلاّ بالتعويل عليه» تلك «طريقة أسلافنا الأقدمين فالعود إليها إحياءٌ لسننهم وعملٌ بآثارهم».

مع الموجة الثالثة التي يشهدها القرن 15هـ /21 م يتوالى طَرْقُ العنف «السلفي» أبوابَ تونس مستعيدا خطاب الحرص على «نقاوة الأصول» لكن بمسوغات نظرية وفكرية مختلفة. غاية هذا الطرق تَدْيينُ الحياة والفكر بتعاطٍ انتقائي وتقليدي للنصوص المؤسسة والتراثية واستبعادٌلكلّ حسّ تاريخي واستراتيجي.

لكن أخطر ما يميّز هذه الموجة ويمكّنها من قدر من النفاذ هوالسياق الحضاري السياسي الذي تتنزّل فيه محليا وإقليميا ودوليا. هناك من جهة تراجعٌ أكيد لمصداقية التحديث القُطري، يدعمه غياب المشروع العربي الوطني، يرسّخه عجزٌ عالمي عن تحقيق تسويات عادلة لصراعات الهويات السياسية والثقافية- الاجتماعية التي بلغت مستوى عالي الحدة منذ المرحلة الاستعمارية. يضاف إلى هذه العناصر عامل رابع متمثّل في فقدان مرجعية عربية مُجددة للفكر الإسلامي بعد انهيار المنظومة التقليدية القديمة بكل مؤسساتها وأسسها العقدية والفكرية.

التحرر من مربّع هذا الفراغ القاتل الذي تستقوي به «السلفية» العنيفة الحالية في مواصلة طرقها على أبواب تونس هو منطلقٌ حضاري- سياسي.

مقتضى هذا المشروع التحرري إنهاءُ حالة التمزق الثقافي الذي تُصلب عليه جهود عموم النخب وقوى المجتمع بقطبي القطع والاستتباع: قطع لجذور الذات بانفتاح عاجز أمام عالمية كاسحة واستلاب مستتبِع للتأثيرات السياسية والمذهبية والأيديولوجية الصادرة عن المشرق وما يعتمل فيه.

مؤدى هذا أن مناعة أبواب تونس إزاء مخاطر طرق العنف المعولم لن تتأكد إلا بترسيخ عناصر فعل حضاري تراكمي وتعددي ينتفي معه التناقض بين السياسة والأخلاق بما يكسب المجتمع سلطة يجيب بها عن الأسئلة المعاصرة والتحديات المستجدة التي تواجهه. صميم هذا الفعل عقدٌ ثقافي-اجتماعي يصنع وعيا جمعيا وطنيا يتحرر من ثقافة التقليد بصياغاتها المتعددة وخلفياتها المختلفة.

احمــيده الـنـيـفــر

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.