مصطفى كمال النابلي: تجتاح بلادنا أزمات عديدة، فماذا لو كانت أزمتنا السيّاسيّة أمُّ الأزمات جميعا؟
تمرّ تونس بمرحلة صعبة جداً ومعقدة، وتجتاحها أزمات عديدة ومتداخلة، ذات طابع أمني واقتصادي واجتماعي وسياسي، تختلف بحسب المناحي التي تتخذها...
هنالك أزمات واضحة معلومة، وأخرى كامنة غير معلنة؛ وهنالك أزمات سريعة وأخرى بطيئة وعميقة إلى حدّ يزداد حينا وينقص حينا.
تقع أزمة البلاد السياسيّة في عِدَادِ الأزمات الأشدَّ مُكْرا والأعظم خطرا، هي أزمة تعكس فشلا على مستوى تركيز الهياكل السياسيّة الجديدة المنصوص عليها في الدستور والتي كان من المفروض أن تساعد على تحقيق جملة من النتائج المنتظرة على المستوى السياسي وعلى مستوى تدبّر شؤون البلاد بالنجاعة اللازمة.
هل ٲنّ أزماتنا حديثة العهد، أم قديمة متواصلة ؟ هذه مسألة يمكن ٲن تكون محلّ نظر، وأن تطرح على بساط النقاش، لكنها تبقى، في كلّ الٲحوال وبكلّ تأكيد، أزمة لا تختلف من حيث طبيعتها عن تلك التي اجتاحت البلاد التونسية سنة 2013 جرّاء التشكيك في الشرعية المنبثقة عن انتخابات أكتوبر 2011، بعد انزلاق النظام السياسي والانحراف عن الاتفاق الحاصل قبل إجراء الانتخابات بشأن مسائل تتعلق بأجل صياغة الدستور وبمحتواه، وبمنهج الحكم وممارسة السلطة.
كانت هذه الأزمة في بادئ الأمر بطيئة كذلك، وغير معلنة. إلا أنها تحوّلت في ما بعد إلى أزمة مفتوحة، ولم يقع تجاوزها إلاّ بعد جُهْدٍ جهيد بذله الرباعي تحت ضغط الشارع وتكلّل بجائزة نوبل للسلام. لكنّ العملية كانت مُكْلِفة بالنظر إلى دماء الشهداء وضحايا العنف وتردي الوضع الاقتصادي.
من الأسباب العميقة للأزمة الراهنة ما حصل في سياق انتخابات نهاية سنة 2014، وما طرأ من أوضاع تطورت بشكل لا يتماشى مع ما كان ينتظره التونسيون من الانتخابات ولا مع ما علقوه عليها من آمال. فالسياسات المنتهجة والتوجه العام كان في جلّ الأحيان في غير تطابق مع ما أُطلق من وعود أثناء الحملة الانتخابية، فأحدث ذلك فجوة عميقة بين الواقع والمرتقب، منذرا بمخاطر جمَّة.
جرت انتخابات نهاية سنة 2014 في إطار دستور الجمهوريّة الثانية الذي ينشئ نظاما شبيها جداً بالأنظمة البرلمانية، يحمّل الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد مسؤولية قيادة الحكومة وتوجيه سياسة الدولة وفق البرنامج الذي عرض على الناخبين. لكن لا شيء من ذلك حصل. فلم يُحُمًّل الحزب السياسي الفائز بأغلبية أصوات الناخبين مسؤوليّة تشكيل الحكومة، إنما انصرف السعي إلى تركيز ائتلاف بشكل غير شفاف مُكَلَّفٍ بمهمات بعينها، يتولاها في مدة معلومة، وُضِع تحت مسؤوليةِ شخصية غير منتخبة وغير حزبية. في ذلك زيغ صارخ عن روح الدستور وربما عن منطوقه كذلك... لم يُحَمَّلْ الحزب السياسي الأوّل مسؤولية تشكيل الحكومة، ولم يُوكَلْ إليه وضعُ برنامج الحكومة، ولم يحصل أن دخل للغرض في مشاورات مع أحزاب الائتلاف الأخرى. فليس هناك بالفعل مسؤولية سياسية واضحة محمولة على الحكومة الحالية.
ويكمن السبب الثاني للأزمة الراهنة في ما تعانيه هياكل الحزب السياسي المنتخب والفائز بأغلبية الأصوات منذ الانتخابات من صعوبات حادة أنهكت هياكله ومؤسّساته. ومهما يكن من أمر، وحتى إذا صرفنا النظر عن هذه الأزمة الحادة والمتوقعة داخل الحزب بكلّ خصوصياتها وتبعاتها، فنحن إزاء حقيقة لا مجال لإنكارها وهي أن هذا الحزب لا يمارس المسؤوليّة التي تقع على عاتقه سياسيا والمتمثلة في تدبر شؤون البلاد. فلا هو يعطي الدفع اللازم لعمل الحكومة، ولا هو يسند مبادراتها بشكل معلن وصريح. وعلى العكس من ذلك، نرى كيف أنّ العمل الحكومي كثيرا ما يُرْبكُ داخل البرلمان، ويلقى اعتراضا من قِبل نوّاب ينتمون إلى الحزب الذي من المفروض أن يكون من أول المساندين لهذا العمل. أي أننا سائرون نحو التشكيك في نتائج انتخابات 2014 التي حسبناها سبيلا إلى ضمان الاستقرار السياسي والمؤسّساتي، وهو الأساس الذي كان ينبغي أن يقوم عليه العمل الرامي إلى النهوض بالاقتصاد والتسريع في نسق النمو. ويعتبر غياب الشفافية على مستوى الدور الموكول إلى كلّ من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة في ممارسة السلطة سببا في مزيد تعقيد الأوضاع وإرباكها.
الأزمة البطيئة وغير المفتوحة
نحن نعاني من أزمة بطيئة وغير مفتوحة، أزمة كامنة غير ظاهرة، لكنها من الخطورة بمكان. تُرى كيف تبدو هذه الأزمة؟ ما هي ملامحها ؟ ما هي دلالاتها؟ يمكن ٲن نلمس أهم مظهر من مظاهر الأزمة من خلال درجة الثقة التي يوليها المواطن للطبقة السياسية وبخاصّة للأحزاب والتي تؤكدها كلُّ عمليات استطلاع الرأي. لم يَعُدْ المواطنون يثقون لا في حكامهم الذين انتخبوهم بشكل ديمقراطي، ولا في كلّ من يحتل موقعا في المشهد السياسي. هم يولون ثقة أكبر بكثير لبعض الهياكل غير المنتخبة كالجيش.
المظهر الآخر لهذه الأزمة المُبَطَّنة يبدو لنا من خلال تلك البرامج والتوجهات الحكومية المُبْهَمة وغير المستبينة. لقد فقدت الحكومة القدرة على الإقناع وأصبحت عاجزة عن تقديم تصور مقنع لعملها وللمستقبل وذلك بسبب تضافر جملة من العوامل السلبية كعجز أطراف الائتلاف عن العمل بشكل جماعي متناغم من أجل وضع برنامج مشترك، وافتقاد الجهاز الحكومي للقدرة على التحرّك والعمل بشكل منسجم ومتناسق، وبسبب ما لحق الحكومة من صدمات متتالية أربكت عملها.
المظهر الثالث للأزمة يمكن الوقوف عليه من خلال تراجع جملة من المؤشرات الاقتصادية ومن بينها على وجه الخصوص الاستثمار الذي يستحيل أن ينمو ويتطور دون وجود ثقة في المؤسّسات ودون توفر الاستقرار السياسي ودون وجود تصوّر واضح المعالم للسياسات التي يراد انتهاجها. فنسبة الاستثمار الخاص من الناتج الداخلي الخام ظلت في تراجع متواصل ألقى بظلاله على آفاق النمو.
أما المظهر الرابع للأزمة فيتجلّى من خلال تلك الصعوبات والتعطيلات الكثيرة التي حفّت بعملية تركيز المؤسسات التي نص عليها الدستور الجديد بعد مرور سنتين عن المصادقة عليه، ونعني بها المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء والمؤسسات والقوانين المتعلقة باللامركزية والمجموعات المحلية ومجلس البيئة والأجيال القادمة، وكذلك المجموعات المحلية والهيئة الجديدة للاتصال السمعي والبصري والهيئة الجديدة لمقاومة الفساد. وكذلك الشأن بالنسبة الى إنجاز العديد من القوانين الهامّة كقانون التصدي للارهاب، بالاضافة الى التأخر في نشر الكثير من النصوص الترتيبية.
هذه الأزمة بشتى مظاهرها وتبعاتها جعلت المواطن التونسي يعيش حالة من القلق العميق والارتباك إزاء الكيفية التي تتطور بها الأحداث: هنالك الأخطار الأمنية بما فيها بالخصوص الخطر الإرهابي وهو أهمها؛ وهنالك الوضع الاقتصادي المتدهور الذي يتطور بشكل لا يبعث على الارتياح؛ وهنالك وضع اجتماعي يبقى مدعاة إلى عميق الانشغال. وتجد الدولة عناء في استرجاع هيبتها والقيام بعملها بالنجاعة اللازمة وفقا للوعود التي أطلقها ٲولئك الذين فازوا بأصوات الناخبين. وتبقى شتى هذه المخاطر مرتبطة ببعضها البعض على نحو وثيق وتتغذى من بعضها البعض. إلَّا أن الأزمة السياسية تبقى هي المسيطرة، ولا بدّ من المبادرة إلى معالجتها، فعليها تتوقف قدرة الدولة التونسية على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصاديّة والاجتماعية. ثم أن الأزمة قد تستشري وقد تنفجر في كل وقت.
فما العمل إذن؟ وكيف السبيل إلى الخروج من الأزمة؟
ما ينبغي المبادرة إليه أولا بأول هو إدراج التحوير الوزاري المنتظر ضمن حراك يتوجه بالأساس إلى معالجة الٲزمة برمّتها. ومن دون ذلك، يبقى التحوير مجرّد عملية ترقيعية لا معنى لها وفرصة جديدة مهدورة. ومن الخطورة بمكان أن تستمر الحكومة في القيام بعملها بمعزل عما يحدث على الصعيد السياسي العام كما لو كانت حكومة تكنوقراط. فذلك ما لا تحمد عقباه وما ينبغي تجنبه أو تقويمه إن حصل. وما الصعوبات التى ظلت تواجه هذا التحوير الوزاري إلاّ دليل واضح على استشراء الٲزمة.
وثانيا: لا بد أن يتجه السعي بكلّ حزم إلى معالجة الٲزمة داخل حزب الأغلبية في البرلمان، أي نداء تونس، فالعمل الحكومي لا يمكن أن يكون مجديا وناجعا في غياب قيادة واضحة ومسؤولة تدير هذا الحزب وتتدبر شؤونه. وحلّ الٲزمة ينبغي ٲن يساعد على إزالة أسبابها، فلا يقف الٲمر عند حدّ قلب الأوضاع داخل الحزب بحيث ينتصر أحد الشقين على حساب الشق الآخر. وإذا قدر أن يصير هذا الحزب إلى الانقسام، وأن يظل يعاني من أزمةِ شرعية وقيادية، فإن من شأن ذلك أن يعمّق الٲزمة السياسية ويجعلها تتفاقم وربما يحولها إلى أزمة مفتوحة ومستشرية.
ثالثا: كل ائتلاف سياسي سواء أبقي في شكله الحالي، ٲو كان معدَّلا ومساندا للحكومة، ينبغي أن يتشكل على أسس واضحة من حيث البرنامج السياسي والاقتصادي والمؤسّساتي ومن حيث المسؤولية السياسية.
رابعا: التعجيل بتوضيح وتحديد المسؤوليات المحمولة على رئيس الجمهورية من جهة، وعلى رئيس الحكومة من جهة أخرى، وفقا للدستور. فحينما تكون ممارسة السلطة مشوبة بالغموض، يكون ذلك مصدر خلط واختلال وظيفي لم يعد في مقدور البلاد تحمله. وما لم ينصرف السعي بكلّ جد وتصميم إلى الخروج من هذه الٲزمة، فإن مستقبل البلاد يظل قيد الرهن، وتتقلص حظوظها في هزم الإرهاب، وفي إصلاح الوضع الاقتصادي وامتصاص الغضب الاجتماعي. هنالك شعور واضح يتأكد أكثر فأكثر بٲن المجتمع المدني بيقظته وبقدرته على الضغط سيكون العنصر الفاعل والحاسم في نهاية المطاف. ويبدو ٲن النظام السياسي وصل إلى طريق مسدود بحيث ٲصبح عاجزا عن رفع هذا التحدي بمفرده.
بقلم مصطفى كمال النابلي
- اكتب تعليق
- تعليق