ميزانية الدولة لسنة 2016 طموح رغم الضغوطات

ميزانية الدولة لسنة 2016 طموح رغم الضغوطات

صادق مجلس نواب الشعب على ميزانية الدولة لسنة 2016 وكانت هذه الميزانية في حدود 29 مليار دينار سيخصص منها حوالي 13 مليار دينار لخلاص الموظفين وحوالي 5.2 مليار دينار بعنوان خلاص أقساط القروض الحالة ( توزع بنسبة 3.3 مليار لخلاص الأصل و1.9 مليار لخلاص الفوائض) وحوالي 3.2 مليار دينار كاعتمادات لصندوق الدعم الذي يشمل دعم المحروقات والمواد الأساسية.

وبالاطلاع على أبواب هذه الميزانية يتبين أنّها ميزانية اتسمت بالطموح رغم ضغوطات المصاريف الاعتيادية سواء متعلقة بالأجور أو خلاص القروض أو اعتمادات الدعم التى استأثرت جميعها بحوالي 21 مليار دينار من جملة 29 مليار دينار لكن رغم ذلك فإن الحصة المخصصة للتنمية بلغت 5.4 مليار دينار ستصرف للمشاريع الكبرى أما الإعتمادات المخصصة للتنمية الجهوية فستسأثر بما يناهز 400 مليون دينار وهو ما يساهم في المحافظة على عديد مواطن الشغل داخل الجهات بغية تلافي موضوع تفاقم البطالة بهذه المناطق.
هذه الميزانية وإن كانت مفروضة على من وضعها بحكم ارتفاع نفقات الدولة التي لا مناص منها فإنّ إعدادها تم باجتهاد كبير وحسب تصورات جديدة من شأنها أن تعالج الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد وذلك لاعتبارات متعددة.

أولها: إنّ من وضع هذه الميزانية قد أخذ بعين الاعتبار ميزانية السنة الفارطة ووظف عليها زيادة تقدر بحوالي 7.1 %. وتمثلت هذه الزيادة في نسبة النموّ المرتقبة التي حددت بـ  2.5 % يضاف إليها نسبة التضخّم المالي المتوقع لسنة 2016 وقدرها 4.6 % فيكون الحاصل 7.1 % وقد وقع تطبيقه على ميزانية سنة 2015 ليكون الناتج 29 مليار دينار بالأسعار الحالية وهو تمشّ لا يخلو من التفاؤل لأنه، أحببنا أم كرهنا، كانت سنة 2015 رغم صعوبتها استثنائية من حيث مردود الصادرات الفلاحية التي بلغت حوالي مليارين ونصف دينار ( مليارين بالنسبة لزيت الزيتون و350 مليون دينار بالنسبة للتّمور و150 مليون دينار بالنسبة لمنتوجات البحر).
هذه الحقيقة تبيّن الحذر الممزوج بالتفاؤل الذي اتبعه من أعد الميزانية الشيء الذي جعلها تشهد تطورا بالنسبة لميزانية الدولة السابقة ولكن وقع ربط الزيادة في الميزانية بنسبة النمو المتوقعة ونسبة التضخم المالي فأرسى ارتباطا أساسيا بين الميزانية الجديدة ومؤشر النمو المرتقب والتضخم المالي الذي لا مناص منه وهي مقاربة تنم عن وعي كبير حتى لا تكون الحكومة ملزمة في منتصف السنة بتقديم ميزانية تكميلية.

ثانيا: سعى واضعو هذه الميزانية إلى تقليص من نسبة العجز حيث كانت في السنة الفارطة في حدود 4.9 % من الناتج الوطني الخام ليصبح العجز المحدد بالنسبة لهذه الميزانية في حدود 3.9 % وذلك أخذا بعين الاعتبار بتوصيات البنك الدولي وتحت تأثير الوضع الاقتصادي الصعب الذي مازالت عليه البلاد.
لقد تراجعت نسبة العجز والحالة هذه بنقطة واحدة من الناتج الوطني الخام وبلغة الأرقام فإن هذه النسبة تترجم بنقص في الميزانية بمبلغ 850 مليون دينار، وهم موقف ينم من جهة أخرى عن سلوك حذر حتى تكون الدولة واثقة من توفير الاعتمادات اللازمة لتنفيذ الميزانية دون مخاطر فلا تضطر لتعديل الميزانية أو تغييرها لو أبقت  نسبة العجز في حدود 4.9% كما كانت عليه في السنة الماضية، مع الإشارة إلى أنّ هذه النسبة مقبولة في الأوقات الاعتيادية فكثيرا ما تتجاوز نسبة العجز حتى في البلدان المتقدمة 5 % من الناتج الوطني الخام. لكن واضعي هذه الميزانية اختاروا نهجا حذرا، لازمته الدولة في خصوص التنقيص في نسبة العجز لخصوصيات المرحلة من جهة، ولمسايرة توصيات، البنك الدولي من جهة ثانية.
أصرّ واضعو هذه الميزانية على استبعاد مبلغ 850 مليون دينار بكثير من المرارة تحت هاجس الحذر وكان بالإمكان لو أبقيت أن يقع تخصيصها لدعم الاعتمادات المخصصة للتنمية الجهوية التي هي الكفيلة وحدها بخلق مواطن شغل جديدة بالجهات وذلك بإنشاء مساكن شعبية وتهذيب الأحياء وإصلاح المباني المتداعية بالمدن العتيقة وإصلاح المسالك الفلاحية وتوفير يد عاملة أوفر بإدارة الغابات باعتبار أنّ إدارة الغابات لا تشغل حاليا إلا حوالي 2000 شخص وهو عدد لا يفي بالحاجة لمعاضدة مجهود قوات الأمن الوطني والجيش لمحاصرة جيوب الإرهاب في المناطق الجبلية. لكن هذا الأمر إن لم يتحقق الآن فسوف يأتي بالتأكيد لاحقا عندما ينفرج الوضع الاقتصادي في البلاد بعد تحقيق المصالحة الاقتصادية.

من جهة أخرى، عالجت الميزانية الجديدة ظاهرة تفاقمت بعد الثورة تتمثل في أن الجهاز الإداري لا يصرف إلا في حدود 30 % أو في أقصى الحالات 40% من ميزانية التنمية وقد قامت الحكومة في سنة 2015 بمجهود كبير جعل ميزانية التنمية تنفذ بنسبة ناهزت 75 % أي أن هنالك حوالي مليار وثلاثمائة مليون دينار من ميزانية التنمية للسنة الفارطة لم يقع صرفها وقد ارتأت الدولة أن تستعمل جزءا من هذه الاعتمادات في حدود 500 مليون دينار لتعزيز قدرات الجيش الوطني ووزارة الداخلية ووزارة العدل.
وكان بالإمكان أن يخصص الباقي وهو 800 مليون دينار للتنمية الجهوية التي تعتبر العناية بها جزءا من منظومة  مقاومة الإرهاب. لكن مرّة أخرى اختار واضعو هذه الميزانية اتباع الحذر لأن المداخيل الفلاحية في السنة المقبلة ستشهد تراجعا نتمنى أن يعوض بمداخيل الفسفاط إذا ما رجع هذا القطاع لنسقه العادي.
 من المؤكد أن تعزيز الاعتمادات بالنسبة للتنمية الجهوية يبقى هاجسا للدولة تعمل على تحقيقه تدريجيا لأن التصدي للإرهاب ودحره لا يكونان إلا في إطار مقاربة شاملة  اجتماعية واقتصادية وثقافية وأمنية. فعندما تقع العناية بمرافق الحياة في الجهات وتوفير التشغيل فإن ذلك من شأنه أن ينعكس بالإيجاب على المقاربة الشمولية لمحاربة الإرهاب، فبدون تنمية جهوية لا يمكن ضمان نجاح أي خطة لمقاومة الارهاب.

ثالثا: إلى جانب العناصر التي وقع ذكرها نشير إلى أن الاعتمادات المخصصة لصندوق دعم المحروقات قد تقلصت بحوالي 500 مليون دينار وذلك ناتج عن انخفاض سعر النفط على المستوى العالمي ويتوقع أن يتواصل هذا الانخفاض بالنسبة لسنة 2016 بدخول إيران على الخط وهو ما سيوفر طفرة في الإنتاج تجعل سعر النفط لا يسجل ارتفاعا في السعر العالمي، لكن واضعي الميزانية لم يغفلوا عن معطى هامّ وهو إمكانية الاضطرار للزيادة في اعتمادات الدعم للمواد الأساسية، فتمّ تخصيص مبلغ 70 مليون دينار إضافية بالنسبة لما كانت عليه في سنة 2015 ذلك أنّ زيادة الأجور في القطاعين العام والخاصّ ستؤدي حتما، نتيجة عدم ارتفاع الإنتاج، إلى تدن في سعر صرف الدينار التونسي. لقد عرف الدينار التونسي خلال السنوات الأخيرة نسبة انزلاق سنوية تقدّر بـ3 % ونتيجة لارتفاع الأجور دون ارتفاع الإنتاج وستزداد نسبة انزلاق الدينار سنة 2016 لتصل إلى حدود 5 % وهو ما سيؤثر سلبا في مستوى الأسعار بالنسبة للمواد الأساسية المورّدة فسيرتفع سعر الحبوب وسعر السكر وسعر القهوة  والشاي بالدينار التونسي، وبالتالي ستكون الدولة انطلاقا من جويلية 2016 مضطرة إلى زيادة اعتمادات الدعم حتى لا يرتفع سعر المواد الأساسية للمواطن خاصة وأن الدولة التزمت خلال مناقشة الميزانية أمام مجلس نواب الشعب بعدم زيادة أسعار المواد الأساسية سنة 2016 وهو ما يعني أن الاعتمادات المخصصة لصندوق الدعم  للمواد الأساسية مدعوّة للزيادة وقد احتاطت الميزانية لذلك ونتمنى أن يكون المبلغ المخصص لذلك كافيا.

لقد راهنت الدولة على تحقيق نسبة نموّ خلال سنة 2016 بنسبة 2.5 بالمائة فهذا الرهان سيتحمله بالأساس القطاع الخاص، لذلك جاءت الميزانية بإجراءات هامة للحد من التهريب والتجارة الموازية وتبسيط الإجراءات الجبائية والتخفيض  في الأداء على كثير من المواد لإضعاف آلية التهريب. كما أعلنت الدولة نيتها في تعصير الديوانة وإصلاح القطاع البنكي وسنّ مجلة جديدة للاستثمار. وأهم من كلّ ذلك تمرير قانون المصالحة الاقتصادية الذي سيمكن من ضخّ بعض الأموال لصناديق الدولة يمكن تخصيصها بالأساس للنهوض بالجهات. لكن أهمّ من الأموال المنتظرة هو عودة الثقة لرجال الأعمال للعودة للاستثمار. فهذا القطاع يشهد انكماشا كبيرا للخوف القائم  نتيجة دعوات المحاسبة التي يرفعها بعض السياسيين الذين يقدمون خطاباً متشنجاً لا ينفع مطلقا في الوقت الحالي، ينضاف إلى ذلك الضغط المتزايد لاتحاد الشغل الذي أصرعلى  مراجعة أجور القطاع الخاص رغم أنّ الظرف غير مناسب لذلك. لكن التوقعات تشير إلى أن الزيادة ستكون في حدود السبعة بالمائة.
لقد شكل مناقشة الميزانية من طرف مجلس نواب الشعب فرصة للوقوف على مدى وعي الحكومة بالتحديات التي تعيشها البلاد وعزمها على فتح عديد الملفات بشجاعة كبرى وتجلت بوادر هذه الشجاعة في إقدامها على تمرير الفصل 61 من قانون المالية لسنة 2016 ليحل جزئيا مشكل الأموال والأرصدة  المالية بالخارج للمواطنين التونسيين المقيمين بالبلاد أسوة بما قام به المغرب وتم تمرير هذا الفصل رغم المعارضة الشديدة لنواب المعارضة.
وهذا الموقف الشجاع يؤكد عزم الحكومة على المضي  في هذا الاتجاه بما يمكن القطاع  الخاص من استعادة عافيته وتحقيق نسبة النمو المرتفعة.
لقد راهنت الدولة بالأساس على القطاع الخاص ونتمنى أن تنجح في كسب هذا الرهان.
 
الخلاصة: إنَّ هذه الميزانية طموحة رغم الضغوطات التي تعيشها الدولة خاصة بعد الزيادة في حجم الأجور وهي ميزانية سعى واضعوها لاستنباط طرق جديدة، ولتحقيق نجاح المرحلة المقبلة على المنظمتين الكبيرتين وهما اتحاد الاعراف واتحاد الشغل أن يضعا حدًّا لتجاذباتهما خاصة وإنهما أصبحا بعد إحرازهما على جائزة نوبل مسؤولين على نجاح المرحلة الإنتقالية  أمام العالم بأسره. وعلى العائلة السياسية وخاصة الأحزاب التي تتحمل مسؤوليات الحكم فتح الحوارات المعمقة لصياغة اقتراحات عملية جديدة لتحسين الموارد بغية النهوض بالأوضاع  الاجتماعية والاقتصادية داخل البلاد وإيجاد صيغ أكثر عدالة لتوزيعها، ولما لا يقع التفكير في بعث أقاليم اقتصادية ؟ ولما لا يقع التفكير في بعث صناديق جهوية للتنمية تستأثر بنسبة مائوية من مداخيل الثروات التي تنتج بهذه الأقاليم وخاصة بالمناطق الداخلية الحدودية؟ ولم لا يخصص جزء من الأداء على القيمة المضافة للتنمية الجهوية في المناطق التي يدفع فيها هذا الأداء وهو إجراء انتشر اليوم في عديد البلدان وحتى الأوروبية منها.
الحكومة نجحت بكل المقاييس في رسم سياستها على المدى القريب حتى تبقى الدولة قائمة متماسكة  مضطلعة بأدوارها الأمنية والاقتصادية ولكن على المدى الطويل فإن السياسة المالية في حاجة إلى مقاربات جديدة في كل المجالات وعلى واضعي الميزانية في المستقبل أن يبحثوا عن اليات جديدة بإمكانها أن توفر مداخيل إضافية وتخصيص أكثر اعتمادات للتنمية الجهوية  باتت الجهات في أشد الحاجة إليها.
هذه الميزانية ميزتها أنها فتحت من جديد أبواب الأمل في إعادة الصحوة للاقتصاد الوطني بدون أي شك وهي حذرة حتى لا نحتاج لميزانية تكميلية ، لكن على الحكومة أن تشرع من الآن في إعداد تصورات جديدة لسنة 2017 خاصة وأنها سنة مفصلية لأنها ستشاهد حلول أقساط قرض أكثر أهمية، وقد حان الوقت و لاستنباط  وسائل جديدة لتحقيق الأهداف التي من أجلها قامت الثورة.

بقلم الأستاذ عادل كعنيش

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.