الأصول التاريخية للفكر الدستوري في البلاد التونسية

الأصول التاريخية للفكر الدستوري في البلاد التونسية

لا يخفى على المهتمين بالشأن الثقافي والتاريخي أن تونس هي التي شاهدت صدور أول دستور في العالم الاسلامي وكان ذلك في سنة 1861 (في حين أن تركيا العثمانية مثلا لم تعلن عن دستور لها قبل سنة 1876 حيث تم الاعلان عن " القانون الاساسي").

ويجدر التذكير بأن الدستور التونسي كان وقتئذ بمثابة التتويج لمسيرة اصلاحية ظهرت منذ دولة أحمد باشا باي (1837 – 1855) فتواصلت في عهد محمد باشا باي بالاعلان عن الميثاق الضامن لحقوق الاهالي وكل المقيمين والمعروف بعهد الأمان في سنة 1857 وانبثقت عنه مجالس استشارية وقضائية هي المجلس الاكبر ومجلس التحقيق ومجلس الجنايات والأحكام العرفية تم تركيزها في عهد محمد الصادق باشا باي (1859 – 1882).

وإن كان لبلادنا الفخر بالاعلان عن أول دستور فيجب أن نتذكر أن التجربة الاصلاحية التونسية التي ظهرت في القرن التاسع عشر كانت تمت بصلات عميقة الى محاولات تحديثية ظهرت في البلدان الاسلامية وبخاصة في تركيا ما بين 1839 و 1876 وهي الحقبة المعروفة بعصر "التنظيمات الخيرية"؛ وفي مصر زمن الأمير محمد علي (1805 – 1848 ). وكانت غايتها تدارك التأخير الحاصل في أوطاننا بالمقارنة مع النهضة الاروبية في مجال المعرفة والعلوم والاقتصاد والمؤسسات السياسية .

وقد واكب هذه الاصلاحات – أو بالأحرى هذه المحاولات – ظهور تيّار فكري اصلاحي يسعى الى اقناع أرباب الدولة والأهالي بان الدخول في الحداثة التي يقودها الغرب لا يتعارض مع الدين الاسلامي، ولا المؤسسات والتراتيب والقوانين الحديثة مع الشريعة.

وقد ساعد روّاد هذا التيّار من رجال السياسة والدولة كخيرالدين وحسين وأحمد بن ابي الضياف انضمام علماء من رجال الدين والعلوم الشرعية كمثل محمود قابادو ومحمد بيرم الخامس وسالم بوحاجب الذين جعلوا من معارفهم الفقهية والأدبية سندًا للفكر الاصلاحـي.

وفي هذا الصدد ينبغي أن نشير الى أن دستور 1861 كان يحمل اسم "القانون". واختيار هذا المصطلح دليل على ارتباط هذه المرحلة من تاريخ الفكر الدستوري بمراحل ماضية شاهدت عملا اجتهاديا قيّما، استطاع بفضله رجال العلم تحقيق التوفيق بين مقتضيات الشريعة ومتطلبات العمل السياسي . وقد ظهر هذا العمل في زمن تطورت فيه الدولة الاسلامية حتى بلغت حجم الامبراطورية تضم اقطارا متعددة وملل ونحل متنوعة وأديان مختلفة، فضلا عن ضرورة مجابهة تحديّات عديدة ناتجة عن التغييرات التي ما انفك العالم يشاهدها منذ العصر الوسيط. فادرك نحارير العلماء في تلك العصور حجم الخطر الناتج عن ابقاء الامور كما هي ودون مساعدة أولي الأمر على القيام بواجباتهم إزاء الأمة في كنف احترام قواعد الدين في المعاملات وفي الجباية وفي تحقيق الامن والاستقرار.

فأحدث العلماء المصطلح المعروف بالسياسة الشرعية وهي جملة الاجراءات التي تُمنح للأمير دون تقيّد ضروري بشروط الشريعة (خلافا للقاضي الشرعي) وذلك ليتسنى لولي الأمر توفير الأمن وردع مرتكبي الجرائم وتحقيق الاستقرار ونفع الأمة بطريقة لا تتناقض مع قواعد الشرع ومقاصده.

وما أروع كلام ابن قيّم الجوزية (1292 – 1350)، الذي تناول هو أيضا موضوع السياسة الشرعية بعد شيخه أحمد بن تيمية، حيث يقول : "إن أمارات العدل اذا ظهرت باي طريقة كان فهناك شرع الله ودينه".

وقد ألف علماء من مختلف الاقطار الاسلامية في باب السياسة الشرعية كالعالم التركي ددّه أفندي في القرن السادس عشر والعالم التونسي محمد بيرم الاول في عهد حمودة باشا باي الحسيني (1782 – 1814)، كل ذلك فضلا عن المؤلفات التي تناولت المجال المعروف "بنصائح الأمراء".

أما مصطلح "القانون" فقد ظهر في عهد الدولة العثمانية انطلاقا من نفس الاجتهاد الرامي الى التوفيق بين الشريعة والسياسة وكان ذلك مدة السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطنية سنة 1453 وسقوط الامبراطورية البيزنطية ثم في عهد حفيده سليمان (1520 – 1566) المعروف بالقانوني إشارة الى المنظومة الاجرائية والترتيبية التي أذن بتطبيقها بعد ان تمت صياغتها على يد علماء عصره وبخاصة أبي السعود، فأضيفت الى المنظومة الشرعية المعتمدة في تسيير الدولة والمجال القضائي.

وتدل هذه الامثلة والاحداث التاريخية على أن مسألة السياسة في علاقتها مع الشريعة تمت معالجتها منذ عهود بعيدة وبطريقة ذكيّة من لدن ائمة العلماء. فترتب على ذلك تعاون بين رجال الدين ورجال السياسة ساعد على الوقاية من الفتن والحد – نسبيا – من استبداد الجبابرة كما تيسر بذلك ادخال اصلاحات قانونية واجرائية ومؤسساتية ما كانت ان ترى النور لولا تزكية العلماء. الاّ أن هذه العلاقة أدّت في حالات كثيرة الى السكوت عن تجاوزات خطيرة خشية ادخال البلاد في فتنة أو خوفا من سطو الامراء او يأسا من معارضة الاستبداد.

والجدير بالاشارة أن خير الدين التونسي (1822 -1889) واصدقاءه من رجال الدين استندوا الى هذه المواقف الاجتهادية الدالة على فهم صحيح لمقاصد الاسلام. فنجد في كتاب "أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك" الذي ألفه الوزير خير الدين سنة 1867، أدلة واضحة على اعتماد رجال الاصلاح في القرن التاسع عشر على اسلافهم من المستنيرين المجتهدين كالعالم الحنبلي ابن عقيل من علماء القرن الخامس الهجري (القرن الحادي عشر م) الذي ردّ على من قال "لا سياسة الا ما وافق الشرع": " إن أردت بقولك الا ما وافق الشرع أي يخالــف ما نطــق به الشــرع فصحيح. وإن أردت لا سياسة الا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحّابة".

أما رجل الدولة المؤرخ المصلح الشيخ أحمد بن ابي الضياف (1804 – 1874) الذي ترك لنا كتابه المرجع " اتحاف أهل الزمان باخبار ملوك تونس وعهد الأمان" فقد أيّد هذه المواقف مؤكدا في مقدمة تاريخه أنّ "أفضل أصناف الحكم هو الملك المقيّد بقانون لأن أمره دائر بين العقل والشرع وصاحبه يتصرف بقانون معلوم فإذا تعمّد مخالفته انحلت بيعتُه من الاعناق".

وبالرغم من فشل التجربة الدستورية الاولى (ايقاف العمل بعهد الامان والغاء المجالس في 1864) لاسباب عديدة داخلية (عدم استعداد الأمراء والأهالي، العجز المالي للدولة، مجتمع أرهقته الازمة الاقتصادية، سياسة جبائية مجحفة وثورة 1864) واسباب خارجية (التدخل الخبيث للأجانب في الشؤون التونسية) فقد استمر الفكر الاصلاحي قائما في تونس، متّصفا بذلك البعد الدستوري والمؤسساتي حتى أن أول ما طالبت به النخبة الوطنية في عهد الاحتلال الفرنسي كان إحيـاء "دستـور 1861" (وقد استعـملت هذه الكلمة لاول مرة سنة 1920) أو صدور دستور جديد. وقد استند الزعماء الوطنيون الى موقـف أساتـذة من كلية الحقـوق بباريـس أعلـنوا من خـلالـه في جويلـية 1921 "أن النـظام الدسـتوري لا يتناقض في جوهره مع نظام الحماية".

ثم جاءت المطالبـة في مجـال المؤسسـات فرفـع شعار "برلمان تونسـي" ولا عجب حينئذ في أن أول حزب سياسي عصري سمي عند تأسيسه في 1920 الحزب الحر الدستوري وأن استقلال البلاد تحقق بقيادة الحزب الحر الدستوري الجديد.

ولمّا ظفرت تونس بالاستقلال في سنة 1956 كان أول قرار تاريخي انشاء المجلس القومي التأسيسي في 8 أفريل من تلك السنة والاعلان عن الدستور سنة 1959.

ثم جاء دستور 2014 فكان توافقيا، ضامنا للحقوق والحريات وكذلك لهويتنا التونسية التي نريد، أي هوية متعلقة بدينها وحضارتها وفي الوقت ذاته، عاقدة العزم على مواكبة العصر والحداثة.

والحمد لله على أن تم ذلك في كنف نقاشات وجدل وحوار باسلوب متحضر شارك في تحقيق هذا النجاح النواب والاحزاب والقوى الاجتماعية والجمعيات والمواطنون من رجال ونساء – بل من نساء ورجال حيث برهنت المرأة التونسية على نضجها السياسي وحرصها على صون مكتسباتها القانونية والاجتماعية – .

فيحق لنا، بفضل هذه النجاحات أن نفتخر بوجودنا – معشر التونسيين – مرة أخرى في طليعة الدول العربية بعد مرور 150 عاما عن إعلان قانون 1861.

أ.د. محمد العزيز ابن عاشور

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.