روسيا × سوريا = معادلة شرق أوسطية جديدة

روسيا × سوريا = معادلة شرق أوسطية جديدة

ثَمَّةَ، في نظري، سبعةُ مُتَغَيِّرَات إقليمية ودولية هي التي جعلت اتحادية روسيا تحزم أمرها وتتدخّل عسكريّا، بشكل صريح، في سوريا،وهذه المُتَغَيِّرَات هي، دون ترتيب من حيث الأهمية، بدايةُ التّقارب بين إيران وبين الولايات المتحدة والدول الغربية بعد الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، وانتهاءُ الهدنة التي تواصلت لأكثر من عقد من الزمن بين أكراد تركيا وبين أنقرة، وتورُّطُ المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي (باستثناء عمان) في حرب اليمن، وتفاقم أزمة اللاجئين والمهاجرين الذين يواصلون التدفّق على أوروبا، وقصورُ التحالف الستّيني أو ربّما تقصيرُهُ المُتَعَمَّد في وقف تمدّد «الدولة الإسلامية» في كل من العراق وسوريا وحتى خارجهما، ثمّ تصاعد المحاولات الداخلية والخارجية الرامية إلى إسقاط النظام السوري، وأخيرا تأجّجُ رغبة روسيا في استعادة مكانتها الدولية والإقليمية ووضع حدّ للآحادية القطبية وتفرّد واشنطن بالهيمنة على العالم...

ممّا يُبْدَى هنا وهناك من اعتراضات على التدخّل العسكري الروسي في سوريا، فإن جملة الأطراف المناوئة له قد تكون، في قرارة نفسها، تشعر بنوع من الارتياح لهذا التدخّل، لأنّه من شأنه أن يخفّف، إن لم يرفع عن كاهلها، ولو جزئيا، بعض أعباء اضطراب الوضع في سوريا، وما يمكن أن يكون لاستمراره من مضاعفات خطيرة، فبعيدا عن مكابرة البعض،ومزايدة البعض الآخر، قد يعود هذا التدخّل بالنفع على دول الجوار (بما في ذلك تركيا) لأنه إذا ما ساعد على إخراج سوريا من دوّامة العنف، وقرّبها من ساعة التسوية السياسية المنشودة، فإنه سيسهم في وضع حدّ لنزوح السوريين، وسيخلّصها من عبء اللاجئين إليها...

وما من شكّ أن الرئيس بوتين وضع في حسابه هذا الشعور عندما قرّر الإلقاء بثقل بلاده في محاولة إنهاء الوضع المأساوي السائد في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات ونصف.

ولا بدّ أن نلاحظ في هذا السياق أن موسكو التي دأبت، منذ بدء الأزمة السورية، على مد النظام السوري بدعمها العسكري والسياسي والاقتصادي، وعلى توفير ما يحتاجه من أسلحة ومعلومات استخباراتية وتغطية دبلوماسية وسياسية في المحافل الدولية، لم تُقْدِمْ على التدخل العسكري المباشر في سوريا إلا بعد أن تفاقمت أزمة اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا، كما أنّ الطيران الروسي لم يشرع في التحرّك إلا بعد أن تحادث الرئيس بوتين مع نظيره الأمريكي أوباما طيلة ما يقارب الثلاث ساعات ونصف... وبعد أن طلب «البنتاغون» من روسيا التنسيق، في ضرباتها الجوية، مع قوات التحالف الدولي، وهو ما يعني ضمناً موافقة الولايات المتحدة على التحرّك الروسي.

أجَلْ... إنّه من الطبيعي أن تعلن الأطراف المناوئة للتدخّل الروسي رفضها لهذا التدخل وأن تشكّك،من خلال حملاتها الإعلامية والسياسية،في أهدافه الحقيقية وفي جدواه، بَيْدَ أنها، على ما يبدو، غير مستعدّة لأن تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي تعي جيدا أنّ الوقوف في وجهه سيكون باهظ الكلفة، وأنه من الأفضل بالنسبة إليها أن تجنح إلى التفاهم مع موسكو علّها تستطيع الوصول معها إلى توافقات تمكّن من تحديد حجم تدخلها في سوريا وفي المنطقة، ومن تجنّب إضراره بمصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط... وهذا ما عبّر عنه مثلا وزير الخارجية الألماني عندما حذّر روسيا من أن تتّخذ  مسارات آحادية الجانب في سوريا، حيث «لا ينبغي أن ينشأ وضع يجعل أي تحرك مشترك للمجتمع الدولي غير ممكن»...

وليس معنى ذلك أن هذه الأطراف لا تتمنى أن يكون تدخّل موسكو في سوريا مستنقعاً يستنزف قدرات اتحادية روسيا، مثلما كان تدخّلها في ثمانينات القرن الماضي مستنقعا استنزف قدرات الاتحاد السوفياتي، بل إنها، دون شك،ستعمل بكل ما في وسعها من أجل ذلك،لا سيما بتكثيف دعمها للمعارضة السورية بالعدّة والعتاد... غير أن حظوظ نجاحها في تحقيق هذه الغاية ليست، كما يرى الملاحظون، كبيرة، بسبب عدّة عوامل لعلّ أهمها أن المسرح السوري مختلف بتركيبته وموقعه عن المسرح الأفغاني، وأن المشهد الدولي اليوم مغاير للمشهد الدولي في ثمانينات القرن الماضي، وأن موسكو التي جرّبت تحدي واشنطن والغرب في أوكرانيا مصمّمة على افتكاك موقعها على خريطتي العالم والشرق الأوسط، وعلى كسر احتكار الولايات المتحدة للتحكّم فيهما وفقا لأهوائها ومصالحها الأنانية الضيقة...
ثم إن موسكو التي لُدِغَت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين من الجُحْر الأمريكي مرتين، مرّةًأولى في العراق، ومرّةً ثانية في ليبيا، لا تريد أن تُلْدَغَ مرّةً ثالثة في سوريا حتى لا تفقد هذا الحليف الاستراتيجي القديم الذي تربطها به، منذ عدّة عقود، مصالح كبرى، فسوريا كانت على الدوام حريفا مميّزا لأسلحتها، وهي موطئ قدمها الوحيد والأخير في البحر الأبيض المتوسّط، ونقطة ارتكاز ما تبقّى من نفوذها في الشرق الأوسط وبالتحديد في المشرق العربي المُرَشَّحِ لأن يشهد تحولات سياسية واقتصادية عميقة؛ سياسيّا بسبب الصراعات الدائرة على ساحات العديد من بلدانه، واقتصاديّا نتيجة الاكتشافات لمنابع غاز ونفط ضخمة في المنطقة البحرية المقابلة للسواحل السورية واللبنانية والفلسطينية والقبرصية والمصرية (قدّر المسح الجيولوجي الأمريكي الذي أُجري في شرق المتوسط عام 2010، حجم احتياطي الغاز بـ3450 مليار متر مكعّب، واحتياطي النفط بـ1,7 مليار برميل في المياه الإقليمية السورية).

وليس هذا فحسب، فالرئيس بوتين الذي أكد في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه «لا أحد يقاتل الدولة الإسلامية في سوريا بشكل حقيقي باستثناء حكومة الرئيس الأسد وقوات حماية الشعب الكردية»، لا يخفي مخاوف بلاده مما يمكن أن يكون لانتشار الحركات الدينية المتطرّفة في الشرق الأوسط وفي سوريا بالذات من انعكاسات خطيرة على مسلميها في القوقاز وآسيا الوسطى، خاصة في حالة عودة «مقاتلين» شيشان إليها بعد التمرّس بفنون القتال في الساحتين السورية والعراقية.

لكلّ هذه العوامل،وبالنظر إلى تواتر الحديث في الآونة الأخيرة عن إمكانية إقامة مناطق آمنة في سوريا، وربما دخول قوات عربية أو إقليمية إليها، عملت موسكو، منذ عدّة أشهر،كما أكّد ذلك وزير الخارجية السوري، على إعداد العدّة، بالتنسيق مع دمشق ومع بغداد، للتدخل في سوريا مع تأمين أكبر قدر من أسباب النجاح لهذا التدخّل.

وفي هذا الإطار بالذّات يندرج إنشاء مركز التنسيق الاستخباراتي الذي يضمّ كلاّ من العراق وروسيا وسوريا وإيران في بغداد، كأداة مُسَاعِدَة على إنجاح التدخّل في سوريا، وربّما كتمهيد لتعاون روسي عراقي مستقبلي أوسع من أجل تدمير «الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام» التي تؤكد موسكو،عن حقّ،استحالة القضاء عليها إن لم تتمّ محاربتها في سوريا وفي العراق معا... ومن هنا لا يستبعد بعض الملاحظين أن تمتدّ المظلة العسكرية الروسية إلى العراق بشكل أو بآخر خاصة وأن موسكو أعلنت أنها على استعداد تامّ لتوجيه ضربات  جوية لـ»الدولة الإسلامية في العراق» إذا طلبت الحكومة العراقية منها ذلك، بينما أعرب رئيس الوزراء العراقي عن ترحابه بأي جهد عسكري روسي ضد هذه «الدولة» داخل بلاده...

إضافة إلى ذلك، ووعيا منها بأن نجاح تدخّلها في سوريا سيكون مرهونا بحسم حملتها على «الدولة الإسلامية» والتنظيمات المتطرفة بأسرع وقت ممكن، أعلنت موسكو أنها تقدّر أن تستغرق هذه الحملة أربعة أشهر فقط، علما بأن واشنطن ما فتئت تردّد أنها ستحتاج إلى عشر سنوات كاملة، إن لم يكن أكثر، للقضاء على «الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام»...

وفي انتظار ما ستحفل به الفترة القادمة من تطوّرات ميدانية وسياسية، يمكن القول منذ الآن إن التدخل الروسي في سوريا أحدث تحوّلا في موازين القوى وأنشأ واقعا إقليميا ودوليا جديدا، لن يلبث أن يفضي إلى خلق معادلة شرق أوسطية جديدة من أهم خصائصها أنها ستُنْهي حالة التفرّد الأمريكي بمنطقتي المشرق والمغرب العربيين،وستعطي لموسكو دورا فاعلا ووازنا في أية تسويات قادمة لأزماتهما في إطار المحافظة على مصالحها الاستراتيجية بعيدة المدى فيهما أولا، وفي غيرهما من مناطق النزاع بينها وبين الغرب ثانيا.
وتأسيسا على كل ما تقدّم، فإنّ المهمّ الآن،لم يعد أن نرفض التدخل الروسي في سوريا أو أن نقبله، وإنّما هو أن نحسن قراءة الواقع الجديد الناشئ عنه، وأن نتابع أطواره عن كثب،وأن نستشرف ما يمكن أن يكون له من تداعيات على مستقبل بلادنا والمنطقة.

وفي هذا الإطار، أعتقد أنه سيكون من المفيد أن نستبق الأحداث، وأن نسرّع نسق عملية «تطبيع» العلاقات التونسية السورية التي بدأ ترميمها بصورة متردّدة ومحتشمة، فمثل هذا التمشّي الاستباقي سيساعد بلادنا على تسوية ملفّ المساجين التونسيين في سوريا، وملف «المقاتلين» الذين التحقوا بالدولة الاسلامية والتنظيمات المتطرّفة الأخرى والذين قد يعودون إلى تونس مستقبلا.

وفي هذا الصدد، ينبغي أن ننتبه إلى الأنباء التي تؤكد أن أتباع هذه التنظيمات أصيبوا منذ الضربات الجوية الروسية الأولى بحالة من الذعر وأن بعضهم سارعوا إلى الفرار من مناطق سيطرتهم، إما إلى الاراضي العراقية بالنسبة إلى مقاتلي «الدولة الإسلامية» أو إلى تركيا بالنسبة الى مقاتلي المجموعات التي تحظى بالدعم التركي العربي الغربي، (أي»جبهة النصرة» و»جيش الفتح» و«أحرار الشام»).

وإزاء احتمال محاولة بعض»المقاتلين»التونسيين العودة إلى تونس، أو الانتقال إلى ليبيا، ينبغي لبلادنا أن تسارع باتّخاذ الاجراءات اللازمة لتكثيف تعاونها الاستخباراتي مع السلطات السورية أولا، ومع الأطراف الليبية ثانيا، وحتى مع الروس ثالثا... وهنا ينبغي التّذكير بأن الرئيس بوتين أكّد في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة «أن ليبيا تحتاج الى الدّعم لحلّ أزمتها السياسية»، وأن «فراغ السّلطة الذي تكوّن في شمال إفريقيا ملأه المسلّحون المتطرفون»، وأنّه «لا يمكن تسوية مشكلة اللاجئين إلاّ عبــر إعــادة مؤسسات الدولة في الأماكن التي تم تدميرها فيها». على صعيد آخر، يعتبر تغيّر مواقف بعض الأطراف التونسية من النظام السوري، ودعوتها إلى المصالحة العربية العربيّة أمرا إيجابيا غير أنه يظل غير كاف، إذا لم يُشْفَعْ بتحرّكات عمليّة ملموسة من قبل الدولة التونسية.

وفي رأيي فإنّ هذه التحرّكات يمكن أن تكتسي شكلين اثنين:
الشّكل الأول ثنائي تونسي سوري وهو يتعلق بتطبيع العلاقات بين البلدين، كتمهيد ضروري لتسوية ملفي السجناء و«المقاتلين»التونسيين في سوريا، بالتنسيق مع الجانب السوري.

والشكل الثاني متعدّد الأطراف، ويمكن أن يتمّ في إطار جامعة الدول العربية التي نعتقد ان الوقت حان لكي تراجع قراراتها السابقة بخصوص سوريا، وهو ما يُمْكِنُ أن يَدْفَعَ إليه تحرّكٌ جماعيّ تُسْهِمُ فيه تونس تداركا لخطإ احتضانها «مؤتمر أصدقاء سوريا».

وفي هذا السياق فإننا نؤمل أن تتم ترجمة اتفاق رئيس الدولة مع نظيره المصري خلال زيارته الأخيرة الى مصر على أهمية التوصل إلى حلول سياسية للأزمات التي تمر بها دول المنطقة الى تحركات فعلية في هذا الإتجاه.
إلى ذلك، ودون الدخول في مناقشة عقيمة لمغانم ومغارم تعزيز التعاون مع الحلف الأطلسي، والانخراط في «التحالف الدولي ضد الدولة الاسلامية والتطرف العنيف»،فان بلادنا مدعوة إلى توخّي نهج براغماتي في التعامل مع جميع الاطراف الدولية المعنية بمكافحة الإرهاب، ومعنى ذلك أنها تحتاج إلى أن تطوّر تعاونها مع روسيا التي أعتقد أنها تملك نفس القدر إن لم يكن قدرا أوفر من المعلومات الاستخبارية عما يجري على الساحة السورية وغيرها من الساحات، والتي لا أستبعد، في حالة نجاح تدخّلها في سوريا،أن نراها تعود إلى منطقتنا بكل قوّة..

محمد ابراهيم الحصايري
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.