لــيــبــيــــا بعــد حــكـــــومـة الـتـــوافــــق

لــيــبــيــــا بعــد حــكـــــومـة الـتـــوافــــق

المرحلة المقبلة ستكون الأعقد والأعسر في ليبيا، لأن الصعب ليس التوصل إلى وفاق بين الفُرقاء-الغُرماء، على ما فيه من عنت ومُصابرة، وإنما تنزيل الوفاق في الميدان، والسير وسط غابة من الميليشيات المسلحة. فبعد سنتين من الحرب الأهلية أضحت جميع المعايير التي تُعرَّفُ بها الدولة الفاشلة مُنطبقة تماما على الحالة الليبية.

تلك المعايير في عدم السيطرة على المجال الترابي، وفشل السلطة الشرعية في امتلاك القوة اللازمة لفرض قراراتها، وعدم إسداء الخدمات العامة، فضلا عن الفشل في التعامل مع المجتمع الدولي. وهُنا مكمن الاختلاف عن التجربة التونسية، إذ قضى النظام السابق في ليبيا على مُقومات الدولة، وبخاصة بعد قيام «النظام الجماهيري» في 1977.

رسميا لم يتقلد معمر القذافي أي منصب في الدولة، فهو «قائد الثورة»، كما لا يوجد في نظامه «الجماهيري» برلمان ولا رئيس ولا وزارات ولا أحزاب، فنحن أمام غياب تام للدولة، أو ما يُعرف بـ le non Etat. وعمل القذافي وزملاؤه في «مجلس قيادة الثورة» على تكريس النمط البدوي في إدارة الشأن العام، بل وكان يتبجح بذلك حتى في رحلاته إلى الخارج. والبدوي لا يفهم معنى الحدود والقانون الوضعي وقواعد الاجتماع العمراني، وهو لا يثق إلا في بدوي مثله. بهذا العقل أدار القذافي شؤون ليبيا، فشكل نظامُه نمطا مختلفا عن التصنيفات المتداولة في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي، لأنه يقوم على رفض الاجتماع الحضري وإعادة إنتاج البداوة، مما يجعلنا بإزاء نظام بدوُقراطي أو Bédouinocratie. وبعدما كانت الحركة الوطنية الليبية أساس الدولة الحديثة التي برزت في 1933، قضى النظام الجماهيري على الأحزاب والنقابات، وعلق الطلاب المُشاغبين على أعواد المشانق داخل الجامعة.

هذا ما يُفسر أن ليبيا اليوم بلد مُنفلت، وأن تنظيم «داعش» وجد منفذا ليستقر في درنة منذ أفريل 2014، قبل أن يتمدد إلى سرت بعدها بشهور. وسيكون من الصعب على الجيش الليبي في حال إعادة بنائه أن يُسيطر على هذه الجماعة بعدما ضمنت لنفسها حاضنة اجتماعية، بفضل الانشقاقات في تنظيم «أنصار الشريعة» (المُوالي لـ»القاعدة») والتسويات التي توصل إليها مع القبائل المحلية المُؤيدة للنظام السابق. والأخطر من ذلك أنه يُخطط لربط مواقعه في سرت بمنطقة الجفارة، التي تضم حقل المبروك النفطي، كي يضمن موارد مالية لتمويل عملياته. لكن الإيجابي أن الغريمين المتصارعين «فجر ليبيا» و«الكرامة» يُمكن أن يُوحدا جهودهما لقتال «داعش». فعندما نفذ هذا التنظيم موجة من التفجيرات الانتحارية على مشارف مصراتة (معقل «فجر ليبيا») في ماي الماضي، أرسل قادة الميليشيات المصراتية مبعوثين إلى الزنتان لوقف القتال بين الجانبين وتوجيه البنادق إلى الخطر المشترك المُتمثل في «داعش».

ولاريب أن حكومة التوافق ستسلك هذا المسلك بإعطاء الأولوية لإعادة بناء المؤسسة العسكرية، تمهيدا لاستئصال الورم الداعشي. غير أن شح الموارد سيكون عقبة حقيقية في هذه الطريق بسبب تراجع احتياط  النقد الأجنبي وتناقص إنتاج النفط وانخفاض أسعاره عالميا، فضلا عن ارتفاع عجز الموازنة العامة خلال العام الماضي إلى أكثر من 18 مليار دولار. وترتبت على ذلك العجز إجراءاتٌ تقشفية وتأخيرٌ في دفع الرواتب وإلغاء لعدة مشاريع. وانخفض إنتاج النفط إلى أقل من 400 ألف برميل يوميا، أي رُبع ما كانت تنتجه ليبيا قبل الثورة.
وستُجابه حكومة التوافق مشكلة استمرار إغلاق ميناءي السدرة ورأس لانوف (شرقا) أكبر موانئ البلاد منذ ديسمبر الماضي، بسبب القتال بين الفصائل المتنافسة. كما أن الخطر الذي يُمثلهُ «داعش» جعل من غير الوارد إعادة فتح حقول النفط المرتبطة بالميناءين. كذلك مازال حقلا الشرارة والفيل (غربا) مُقفلين بسبب الاحتجاجات، على الرغم من جهود شيوخ القبائل لإعادة فتحهما، وكانا يُنتجان حوالي 400 ألف برميل من النفط يوميا.

بتعبير آخر ستكون حكومة التوافق بلا أظفار ولا إمكانات. وهذا ما سيُعرقل عملها، إذ أن الملف الأمني يفرض نفسه على رأس أولوياتها، إلى جانب ملف إعادة الإعمار. وفي الوقت نفسه سيُطالبُها مئات الآلاف من الموظفين بصرف رواتبهم المتأخرة، (وكثير منهم يتقاضى ثلاثة وأربعة رواتب في وقت واحد)، كما ستُطالبُها الدول الأوروبية بضبط تدفق الهجرة غير النظامية من السواحل الليبية. بهذا المعنى ستكون حكومة التوافق تحت ضغط شديد، مما يجعلها تُركّز على المسائل العاجلة، وهذا يعني أن الأمن لن يستتب في القريب وأن الأزمة في ليبيا مُستمرة طالما لم تخرج البلاد من خانة الدولة الفاشلة، مع ما يترتب على استمرار الفشل من تداعيات أمنية واقتصادية على دول الجوار، وبالأخص على تونس.

رشيد خشانة
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.