التفاعل مع جيوسياسية المنطقة المغاربية-الساحلية

التفاعل مع جيوسياسية المنطقة المغاربية-الساحلية

الوضع الجيوسياسي في ليبيا وما يفرزه من تداعيات خطيرة على تونس- ومع ارتباطه المباشر بجيوسياسية منطقة الشرق الأوسط - هو الجزء الهام والأخطر في جيوسياسية المنطقة المغاربية ومنطقة الساحل الإفريقي المتاخمة لها بحكم الجغرافيا والحدود المفتوحة وبحكم الحركية والتواصل والتضامن "الموضوعي" بين الجماعات المتشددة "الجهادية" المتمردة على الأنظمة, وذلك نظرا لتمدد المجال الجغرافي الليبي في الصحراء ولتماسه مع الساحل الإفريقي بما يسمح لتلك الجماعات بهامش كبير للتحرك دون أن تلقى مقاومة انطلاقا من قواعدها على الحدود مع جنوب الجزائر وفي شمال مالي والنيجر وتشاد والسودان, ومن ضمن تلك الجماعات التي تلجأ لذلك الفضاء شبه الحر تتعايش فصائل من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي , وفصائل من حركات المقاومة بشمال مالي (من التوارق والتوبو وغيرهم), وربما من تنظيم بوكوحرام في نيجيريا, ومنذ فترة تعززت هذه الفصائل المتخصصة في مسالك التهريب والجريمة المنظمة العابرة للحدود فضلا عن ممارسة الإرهاب في "مناطق نفوذها" بالفضاء المغاربي والساحل الإفريقي بفصائل من الجماعات المتشددة الجهادية الناشطة في ليبيا لتكتمل بذلك تركيبة "مولوتوف" الإرهاب المدمر الموجه ضد دول المنطقة وشعوبها, وستكون مهمة تونس أصعب في مواجهة مثل هذا الخطر على حدودها الصحراوية إذا ما انضمت مجموعات من "الجهاديين" العائدين من سوريا والعراق للجماعات المتمركزة بالفضاء الصحراوي.

يتشكل هذا المشهد الجيوسياسي غير المطمئن وبلدان الجوار المغاربي-الساحلي تتعاطى معه بصورة انفرادية إذا ما استثنينا التنسيق الاستخباراتي بين تونس والجزائر في خصوص تحركات المجموعات الإرهابية على الحدود بين البلدين, وفيما تراقب الجزائر بيقظة الوضع على حدودها مع شمال مالي وبقية الشريط الصحراوي المتاخم لأراضيها ومن خلال تعاملها مع بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي, فإن الوضع الجيوسياسي في المنطقة سيبقى هشا ومرشحا لكل الاحتمالات في غياب تنسيق شامل بين دول الجوار بدون استثناء, وسيبقى الوضع على حاله طالما لم تفكر الأمم المتحدة في تمديد مهام بعثتها في مالي لتشمل بقية المنطقة المغاربية- الساحلية وتعزيزها في سبيل ذلك بآلية للتنسيق في مقاومة الإرهاب لأن اقتصار مهمتها في شمال مالي وحتى في صورة نجاحها فإن ذلك النجاح سيبقى منقوصا على مستوى التداعيات على المنطقة بحكم استمرار حركية الجماعات الإرهابية فيها, ويبقى الأمر رهن الإرادة السياسية لدول الجوار المغاربية والساحلية للتوافق على مثل هذا التمشي الإقليمي وموافقة الأطراف الدولية الفاعلة في الأمم المتحدة والمعنية بجيوسياسية المنطقة.

والأمر المؤكد هو أن لا يبقى الوضع على جموده الحالي وأن تتحرك دول الجوار المغاربية-الساحلية, وقد يكون ذلك في إطار مبادرة دبلوماسية تونسية باعتبار علاقات تونس الجيدة مع كل الدول المعنية وباعتبارها مرشحة لتكون في واجهة الخطر - لا قدر الله - إذا اندلع الصراع المسلح في المنطقة, ومن بين الأفكار التي يمكن طرحها في هذا السياق العمل على بلورة آلية متكاملة للتنسيق والتعاون في الفضاء المغاربي-الساحلي في المجالات الاستخباراتية واللوجستية لمجابهة الجماعات الإرهابية وفي تنسيق برامج الإحاطة والمراقبة وإعادة الاندماج في التعامل مع "الجهاديين" العائدين من مناطق النزاع, ويكون ذلك بمساعدة الأمم المتحدة وبالتعاون مع المجتمع الدولي وخاصة الدول الأوروبية المتوسطية التي تؤرقها ظاهرة الهجرة غير المنظمة عبر المتوسط وربما في إطار موسع لآلية 5 + 5 القائمة حاليا بين دول الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط.

في خلاصة القول نؤكد على ضرورة الوعي الجماعي بأن تونس الصغيرة بحجمها يمكن أن تكون كبيرة بسياستها وبدبلوماسيتها إذا ما تمكنت من تفعيلها على أفضل وجه, وهذا في المتناول إذا تعلقت همتنا جميعا بالعمل على تكريس ذلك التميز من خلال مزيد التجانس ولم الشمل حول القضايا الكبرى التي تهم الأمن القومي وبناء مؤسسات الدولة في ظل الجمهورية الثانية واستئناف مسار التنمية الشاملة والاندماجية والمستديمة الذي يؤمن الحياة الكريمة لكل التونسيين من خلال التوطين المتوازن لمجهود التنمية والتوزيع  العادل لثمار النمو وضمان البعد الإنساني والاجتماعي لنمط التنمية , فضلا عن توفير مقومات التربية المعريفية والثقافة المستنيرة والصحة السليمة وعن تأمين المناخ الملائم للحقوق والحريات طبقا لروح الدستور وفي إطار الديمقراطية التشاركية, على أن نلتزم بثقافة الحوكمة الرشيدة في التعاطي مع الشأن العام ونرد الاعتبار للعمل بالفكر والساعد كقيمة حضارية ونكرس التضامن بين العمل ورأس المال من أجل خلق الثروة وتراكمها لصالح المجموعة الوطنية, غير أن تجسيد هذا الطوق نحو الأفضل في الظرف الحالي يبقى رهن توفقنا في تجاوز ما تبقى من أسباب الفرقة والاختلاف من مخلفات المرحلة الانتقالية وما سبقها للمضي قدما في بناء الحاضر والمستقبل على أسس سليمة, وقد لا يتسنى ذلك إلا في إطار توافق كامل حول المصالحة الوطنية الشاملة من أجل تكريس الوحدة الوطنية التي تقوي الجبهة الداخلية وعلى أساسها يمكن مجابهة كل التحديات التي يفرضها علينا محيطنا الجيوسياسي الإقليمي والدولي.

   نسأل الله التوفيق والسداد لما فيه خير البلاد والعباد.

 

صالح الحامدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.