بين الفجور والتقوى

بين الفجور والتقوى

الآن وقد فتحت ثورة الحرية والكرامة في تونس الأبواب مشرعة أمام حرية التعبير يمكن الجزم بأن تونس انضمت و بكل استحقاق إلى نادي البلدان التي تؤمن شعوبها بالديمقراطية التي من أسسها احترام حق المواطن في المعلومة.
ونتيجة لحرية التعبير يتسم المشهد الإعلامي منذ اندلاع الثورة بغزارة العناوين والمحطات الإذاعية والتلفزيونية والمواقع الإلكترونية وغيرها من المحامل التي تولدت عن التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال.
وانبرى الجميع، صحافيون وغيرهم، ينقل الأحداث ويحللها وينظم موائد الحوار حول الشؤون الداخلية والخارجية، وليس في ذلك بدعة لأن ذلك هو الشأن في البلدان التي تنعم بحرية التعبير.
وإذ تعتبر التعددية السياسية، ويعد اختلاف الآراء الركيزة الأساسية لحرية التعبير في المجتمعات الديمقراطية سواء تعلق الأمر بالواقع المعيش أو بالواقع المنشود، أضحى لحرية التعبير أفق عريض تكاد المواضيع المطروقة في ظلها لا تنضب بل لا نهاية لها لأنها تتولد عن بعضها البعض وتتوسع تفرعاتها.
إن القارئ والمستمع والمشاهد والمبحر عبر المواقع الإلكترونية يقف اليوم عاجزا أمام تنوع المواضيع المطروقة وخاصة تعددها على إدراك الرسائل المقصودة منها بسبب غياب التركيز نظرا للغزارة والتشعب. وأصبحت ظاهرة التشتت الذهني السمة البارزة بسبب عدم القدرة على التمييز بين الحقيقة و غير الحقيقة.
مثال ذلك أن جولة عبر المحطات التلفزيونية وأنت في بيتك تصيبك بالارتباك وأنت تشاهد الأخبار المتعلقة بالوضع في سوريا مثلا. فهذا يعرض رواية للأحداث وآخر يعرض نقيضها وكذا الأمر بالنسبة إلى مختلف المواضيع المستمدة من الواقع الذي تعيشه المجتمعات اليوم و من بينها المجتمع التونسي.
ومما يزيد الطين بلة تدفق هذا السيل الجارف من المعلومات المشكوك في صحتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها الفايسبوك الذي أضحى ميدانا يمارس فيه المستهترون هوايتهم في النيل من الأعراض وتشويه السمعة وبث البلبلة تحت غطاء حرية التعبير. وكم من مدمن على مواقع التواصل الاجتماعي أصيب بالاكتئاب والحيرة أمام فقدان القدرة على التمييز بين ما هو حقيقة وما هو افتراء.

خلاصة الأمر أن حرية التعبير بقدر ما أفرزت ميزات إيجابية منها ضمان حق المواطن في المعلومة الصحيحة بقدر ما انحدرت إلى مستويات دنيا في سلم القيم الأخلاقية مما تسبب في شيوع مرض جديد في المجتمعات ألا وهو مرض الشك وهو من أخطر الأمراض التي تهدد المجتمعات بالتفكك والانحلال لأنها تقوض الروابط بين الأفراد والمجموعات وتصيبها في مقتل بحيث ينعدم الالتزام بالشعور بالمواطنة وبواجب الحفاظ على الكيان.

إننا إذن إزاء واقع جديد ليست له وصفة جاهزة للعلاج وهي ظاهرة كونية لا أحد يقدر على التنبئ بمصيرها ومآلها, فأهل العلم والاختصاص في ميادين السياسة والاجتماع في حيرة من أمرهم إزاء هذا الواقع الجديد الذي أفرزته الحرية المطلقة بحيث أنها نعمة و نقمة في الآن نفسه.

وهكذا يتجلى أن المسألة إنما هي أعمق من مجرد سوء تقدير لعواقب الأفعال والمواقف بل هي أصل الذات البشرية المتأرجحة بين الفجور والتقوى. فهل لمنزع التقوى أن يتغلب يوما ما على منزع الفجور؟

عادل  شبشوب

 
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.