الــــوهـــن التــــــــــربـــــــوي

الــــوهـــن التــــــــــربـــــــوي

"من الملفّات الحارقة المطروحة اليوم في تونس على بساط البحث والتقويم ملفّ التربية والتّعليم. خلال الحقبة الاستعماريّة، شهد هذا القطاع تطوّرات متلاحقة .. وبحصول البلاد على الاستقلال، مرّ من مرحلة تعدّد الأنظمة إلى مرحلة توحّدها، عندما أقدمت الدولة الفتيّة، بقيادة الرئيس الحبيب بورقيبة، على إصلاحه واعتماده أساسا للتنمية الشاملة وأداة لبناء قدرات الانسان التونسي.. فسُنّت سياسة تقضي بنشر التعليم على أوسع نطاق وإقرار مجانيّته وتخصيص نصيب وافر من الميزانيّة العامّة قصد بناء المؤسّسات التربويّة وصيانتها، وتكوين إطار التدريس وتوفير منح مدرسيّة وجامعيّة لأعداد كبيرة من التلاميذ والطلبة، إلى غير ذلك من المتطلّبات.."

 منذ ذلك الحين، ظلّ الرهان على التربية والتّعليم خيارا ثابتا وجوهريّا في سياســـة الدّولة، عملـــت على تكريسه  الحكـــومات المتعـــاقبة.. شهـــد القــــطاع مراجعات بــــدأت سنة 1967 واستمـــرّت في السبعينيّات، في عهد وزير التربية آنذاك محمّد مزالي، الذي كان من كبار المتحمّســـين لتعريب التعليم.. بيــــد أنّ أهمّ إصلاح شهــــده القطـــاع، بعـــد إصــلاح  1958، هـــو ذلك الذي أنجز سنة 1991، لمّا تـــولّى محمّــد الشرفي وزارة التــربية والتعليـــم، وكـــانت غايتهـــا الأســـاسيّة» تجفيـــف المنابـــع».. 

والمقصـــود بذلك التصـــدّي لظاهـــرة التطرّف الدينـــي ،إذ اعتبر أنّ المنظومة التربويّة كانت مغذّية لهـــذه الظاهرة. لكن سرعان ما وُجّهت سهام النقد إلى هذا الإصلاح ونادى كثيرون بـ» إصلاح الإصلاح»  واستمرّ الجدل قائما بشأنه إلى أن أُقــرّ  إصـــلاح ثـــان سنة 2002.   

بعد 14 جانفي 2011، أدرك الجميع ضرورة القيام بإصلاح جذري للمنظومة التـــربويّة، باعتبـــاره مـــن بين استحقاقات ثورة قــــام بها شبـــاب يعــــاني الإقصـــاء والبــطالة. ولم تكــن خافية عن الأنظار نقائص وهنات هذه المنظومة التي لم تقدر على مواكبة المتغيّرات الاقتصـــاديّة والإجتمـــاعيّة والديمغــــرافيّة الــــوطنيّة وما نجم عنها من واقع متجدّد كان يفـــرض مقـــاربة مختلفة للشأن التــربوي مثلمــــا فشلت المنظومة التربويّة  في مواكبة  المتغيّرات العميقـــة والمتســــارعة التي طبعت هذا المجال على الصّعيد الدولي.

وتتمثّـــل تلك المتغيّــرات بالخصـــوص في تطوّر البـــنى الاقتصاديّة في عصر العولمة، وتنوّع مصادر المعرفة مع  تنامي سطوة وسائط اتصاليّة حديثة، في مقدّمتها شبكة الانتـــرنات، وبـــروز خــــريطة جـــديدة للمهن أصبح العديد منهـــا قـــائما على اقتصاد المعرفة. 

واعتقـــادنا جـــازم أنّ معظـــم التونسيّين لا يختلفون كثيرا في تشخيص الأمــــراض التي باتت تنخـــر الجســـم التربـــوي في بلادهــــم،  نذكر من ضمنها تدنّي جودة التعليم ومردوديّته، وقصـــور المـــدرسة في الحدّ ممّا أصاب الطبقة الاجتماعيّة المفقّـــرة، لا سيّما في الجهات الداخليّة، من إقصاء وتهميش، وعجز هـــذه الطبقة، وحتّى المنتمــين إلى الطبقة الوسطى، عــن تحمّل الأعباء الماليّة الثقيلة لتعليم أبنائهم ، على الرغـــم مـــن مجـــانيّته، بسبـــب تفــــاقم ظاهـــرة الدروس الخصــــوصيّة وكثـــرة  الأدوات والكتـــب المــدرسيّة التي يتكبّد التلميذ مشقّة حملها والتي ترهق في الآن نفسه ميزانيّات أوليائهم، فضلا عن بطالة نوعيّة مستشرية في صفوف حاملي الشهادات العليا وترهّل بنية تربويّة تحتيّة أضحت سببــا في الفشــل المـــدرسي والانقــطاع المبكّر عن التعليم، خاصّة في المناطق الريفيّة . كما لا يفوتنا أن نشيـــر إلى انتشار مظاهر الفـــوضى والتسيّــب في الوسط المدرسي، وإلى ممارسات منافية للرسالة التربويّة، من أبرزها المحاباة والمحسوبية والغشّ في الامتحانات، ممّا أثّر سلبا في صورة المدرسة التونسيّة  وأضرّ بمصداقيّة شهائدها العلميّة.

احتلّ ملفّ التربية والتعليم  صدارة اهتمامات الحكومة ، إثر الانتخابات التشريعيّة والرئاسية الأخيرة، وأُعلن عن الشروع في إصلاح المنظومة التربويّة، فتشكّلت للغرض لجان تعكف حاليّا على وضع ملامح هذا المشروع .

وإسهاما في تعميق النظر في هذا الملفّ الهامّ ، نفسح المجال  لعدد من المهتمّين بالشأن التربوي  لإبداء وجهات نظرهم في مختلف جوانبه. وتمهيدا للخوض في الموضوع ، رأينا من المفيد أن نعود إلى تاريخ المسيرة التعليميّة في تونس لنستعرض مراحل تطوّرها من عهد الحماية إلى نهاية سبعينيات القرن العشرين.

 
عبد الحفيظ الهرقام 
 
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.